بخلاف ما سارت عليه قيادة التنظيم العالمي لقاعدة الجهاد في السنوات السابقة فيما يتعلق بقلة وندرة التسجيلات والكلمات التوجيهية للفروع، بث الزعيم الحالي لتنظيم القاعدة أكثر مرة تسجيلات، أقل ما يقال عنها إنها متناقضة، وركزت بشكل رئيس على الساحة السورية، والصراع الجاري بين الجماعات الجهادية المنبثقة أو الموالية للتنظيم الأصل. ودعا الظواهري في آخر تسجيل صوتيّ جبهة النصرة إلى وقف القتال ضد من وصفهم بـ "إخوانهم المجاهدين" في سوريا، وأن "يتفرغوا لقتال أعداء الإسلام من البعثيين والنصيريين وحلفائهم من الروافض". جاء التسجيل "المهادن" للظواهري في مرحلة حرجة ودقيقة يمر بها التنظيم ولاسيما بعد السجلات والمشاحنات الأخيرة بينه وبين تنظيم دولة العراق الإسلامية. فالأخير وعلى لسان الناطق باسمه أبو محمد العدناني اتهم في تسجيل صوتي بتاريخ 18 نيسان/ أبريل 2014، الظواهري بالانحراف عن نهج القاعدة، وبأنه جعل التنظيم "يتنخندق في صف الصحوات والعلمانيين"، وبأنه قيادته (أي الظواهري) أصبح "معولاً لهدم الدولة الإسلامية والخلافة القائمة".
نحاول في هذه المقالة أن نقف عند شخصية الظواهري وخطاب تنظيم القاعدة في عهده، ونستكشف مدى ارتباطه وتأثيره على الفروع التابعة أو المتمردة والعاملة على الأرض السورية، قبل أن نعرج على مآلات العلاقة بينهما.
من هو الظواهري؟
ولد الظواهريّ في القاهرة عام 1951، وانضم في سن مبكرة إلى جماعة الإخوان المسلمين في مصر. درس الطب في مصر، وحصل على شهادة الماجستير، وأسس عيادة له في إحدى ضواحي القاهرة قبل أن يتفرغ للنشاط السياسي، إذ التحق بجماعة الجهاد المصرية عند تأسيسها عام 1973، واعتقل عام 1981 على خلفية اتهامه مع آخرين باغتيال الرئيس المصري السابق أنور السادات. وعلى الرغم من تبرئته من القضية، إلا أنه حكم عليه بالسجن ثلاث سنوات بتهمة حيازة أسلحة بطريقة غير مشروعة، وهي سنوات غيرت في فكره وسلوكه، ونقلته إلى العمل الجهادي. فغداة خروجه من السجن عام 1985 غادر الظواهري إلى السعودية ومن ثم بيشاور وأفغانستان ليلتقي بأسامة بن لادن، ويتقرب منه، ويصبح لاحقا ساعده الأيمن بعد تحييد وإبعاد الشيخ عبد الله عزام.
يوصف الأستاذ مأمون مجاهد ديرانية الدور التدميري للظواهري للجيل الجهادي الأول بالقول: "كان الظواهري يحمل مشروعا مختلفا ويبحث عن حامل لمشروعه. ولم يجد أفضل من أسامة بن لادن والذي يملك الإمكانيات المادية المطلوبة، فبدأ بمحاولة استحواذه وسحبه من مكتب الخدمات. في تلك الأثناء كانت الخلافات تزداد بين الشيخ عبد الله عزام وبين الظواهري، وقد نشأ الخلاف على نقطتين كبيرتين: الموقف من خلافات المجاهدين الأفغان، حيث تشبّث الشيخ عبد الله بموقفه الأصلي، الحياد والتوفيق والإصلاح، فيما أصرّ الظواهري على الانخراط في تلك الخلافات. النقطة الثانية التي اختلف عليها الرجلان كانت على الهدف التالي بعد أفغانستان، فقد كانت للشيخ عبد الله رؤية واضحة ومشروع محدد وهو الانتقال إلى فلسطين، أما الظواهري فكان يريد نقل الجهاد إلى محاربة الولايات المتحدة والأنظمة العربية الخاضعة للهيمنة الغربية. يضاف إلى النقطتين السابقتين نقطة أخرى مهمة جداً وهي الخلاف على المنهج الشرعي، فقد حمل الظواهري معه من مصر فكر التكفير الذي تحمله جماعة الجهاد المصرية التي ينتمي إليها، وهو المنهج الذي عارضه الشيخ عبد الله وحاربه حرباً شرسة ورفض خلط المشروع الجهادي به".
حسم بن لادن الصراع بين الرجلين لصالح الظواهري، إذ انحاز إليه وأنشأ "بيت الأنصار"، والذي كان بمنزلة الولادة الحقيقة للقاعدة والتي جمعت ولأول مرة كما يقول ديرانية "بين الجهاد وفكر التكفير ومشروع الحرب العالمية ضد اليهود والصليبيين والأنظمة المحلية في العالمين العربي والإسلامي". وكنتيجة لذلك، أصبح الظواهري الرجل الثاني في التنظيم بعد أسامة بن لادن، ولقب في الأوساط الجهادية بـ "حكيم الأمة". وبعد مقتل بن لادن عام 2011، تولى الظواهري قيادة التنظيم.
قلعة في الرمال
خلف الظواهري بن لادن وتنظيم القاعدة في حالة غير مسبوقة من الضعف والوهن والتشتت، فالضربات الغربية الموجعة في أفغانستان، وباكستان، والصومال، والعراق، ولبنان، والمغرب العربي، حدت من قدرة وفاعلية التنظيم، وغدت قياداته مطاردة في جبال معزولة أو أحياء هامشية. وجاءت الثورات العربية وقتها لتزيد الطين بلة، فأسلوب التغيير السلمي وجه ضربة قاسية لنهج الجهاد العنفي الانقلابي الذي يعتمده التنظيم أسلوبا وخيارا وحيدا للتغيير. كما أن طروحات الحركات الإسلامية بعد الثورات وبلورتها لأفكارها في السياق الوطني شكل تحديا كبيرا لمنهج القاعدة والقائم على التوجه الأممي والعالمي. وأمام هذا الواقع، أصبحت قيادة تنظيم القاعدة أشبه بالأحزاب اليسارية القديمة تكتفي فقط ببيانات الإشادة والتأييد أو التهجم والتنديد من دون فاعلية تذكر. وغدا مشروع الخلافة الإسلامية، كما لو أنه قلعة في الرمال، أي أن له مرجعية وحامل فكري لكن إمكانية تطبيقه غير واقعية وغير مطروحة في تطلعات الشعوب العربية والإسلامية والتي فضلت التموضع والحفاط على كيانتاتها الوطنية الحديثة.
جاءت ثورة سوريا، وتطوراتها لتكون حبل نجاة مؤقت لتنظيم القاعدة، فانتقال الثورة إلى الكفاح المسلح، ووحشية النظام وعنفه ومجازره الطائفية، وعدم حصول التدخل الأجنيي، منح القاعدة الفرصة للتغلغل والانتشار في ساحة هامة جيوسياسيا، فكان مشروع النصرة، والذي مثل تجديدا في فكرها، لجهة الابتعاد عن إعلان الولاء والتبيعية المباشرة للقاعدة، والتركيز على "دفع الصائل" دون الشعارات الكبرى كالخلافة والدولة والشريعة. ومع طول عمر الثورة، وندرة التسليح، وبسالة مقاتليها حققت النصرة حضورا ونفوذا في سورية، واكتسبت تعاطفا شعبيا من شرائح عدة من المجتمع. ظن كثير من المنظرين الجهاديين، أن سوريا والتي خَرّجت أبو مصعب السوري، صاحب المؤلفات الجهادية الهامة، ستكون "مشروع وقاعدة الجهاد" الدائمة، وأن "نموذج النصرة" التجديدي، هو التجلي الرائع والسائد للقاعدة وأفكارها. لكن الواقع وتطوراته أثبت أن الأمنيات السابقة لا تغدو عن كونها أوهاما، فمكمن الخلل ليس في حداثة التجربة الجهادية وانما في تنظيم القاعدة؛ فكره، وهيكليته التنظيمية، وقيادته. فغداة إعلان "أبو بكر البغدادي" زعيم تنظيم دولة العراق الإسلامية، والمعروف لدى القاعدة نفسها بانحرافاته ووحشيته الإجرامية، ضم جبهة النصرة إلى تنظيمه، حاول أبو محمد الجولاني الالتفاف على البغدادي مصدرا الأزمة إلى قيادة القاعدة والتي بايعها وأعلن الولاء على السمع والطاعة. وعلى الرغم من ذلك، فإن جماعة البغدادي استمرت في مسعاها لضم النصرة و إضعافها والاستيلاء على مقراتها وقتل جنودها، والاشتباك مع فصائل الجيش الحر والفصائل الإسلامية ومحاولة فرض البيعة والولاء عليها.
كانت الأوساط الجهاديّة تنتظر موقفا حاسما وسريعا من الظواهري للجم طموحات البغدادي الشخصية. لكن الظواهري، والذي يعرف بأنه بطيء الاستجابة، امتنع عن اتخاذ موقف واضح من مسألة الضم حتى شهر حزيران/ يونيو 2013، أي بعد أكثر شهرين من إعلان الدولة في سوريا والعراق. وعلى الرغم من قراره بفض الدمج إلا أن نبرة الظواهري كانت خفيفة على تنظيم الدولة، وجاءت أوامره كمبادرة حسن نوايا ليس إلا. وندعي أن الظواهري تعامل بانتهازية مع الخلاف الناشىء بين النصرة والدولة، فقد انتظر حتى تتوضح الأمور، فإذا ما انتصر تنظيم الدولة باركه وولاه على سوريا، واذا ما صمدت النصرة أقر فض الدمج، محاولا إعادة الأمور إلى نصابها ومسارها الأولي. وبناء عليه، فإن قرار فض الدمج لم يكن اجتهادا من الظواهري، بل ترجمة للمعطيات على الأرض، اذ رفضت الفصائل الإسلامية وفي مقدمتها حركة أحرار الشام التعامل مع تنظيم البغدادي غداة إعلان الدولة، وحمت النصرة في كثير من المواقع والمدن، وحافظت على وجودها واستمرارها.
ويمكن الإشارة إلى السلوك البراغماتي والانتهازي للظواهري بعد التسجيل الصوتي للبغدادي والذي رد فيه على الظواهري بقوة وحسم معلنا بقاء الدولة، ومتهما إياه بشكل غير مباشر بالانحراف والضلال. فالظواهري وبدلا من اتخاذ موقف حاسم وواضح من مسألة الدولة، امتنع عن التعليق على البغدادي، ورفض تخطيئه. واستمر هذا النهج المحايد لأكثر من عام حتى تبلورت معطيات جديدة عقب انطلاق المواجهة بين الجيش الحر والفصائل الإسلامية وجبهة النصرة، مع تنظيم الدولة، وما رافقها من إنجازات وانتصارات حدت من نفوذ تنظيم البغدادي وعزلته في مناطق جغرافية كالرقة وريف حلب. الأمر الذي فرض على الظواهري الطامح للحفاظ على زعامته وموقعه وحمايتها بغض النظر عن الأهداف والمبادئ إلى انتقاد تنظيم الدولة الإسلامية واتهمه في نيسان/ أبريل 2014 بالانحراف عن نهج القاعدة.
لم تمض فترة وجيزة على هذا الانتقاد، حتى خرج الظواهري بالتسجيل الذي ذكرناه سابقا وطالب جبهة النصرة بالتوقف عن قتال تنظيم الدولة. وفي رأينا أن هذا التصريح المتناقض، جاء في سياق الانتقادات المتزايدة التي وجهت للظواهري في المنتديات الجهادية ورسائل بعض المنظرين، والذين اتهموا الظواهري بالمجازفة في تجريم تنظيم الدولة ومهاجمته دون دعوته إلى الإصلاح والمراجعة. وزاد من هذا الأمر الحملة الدعائية الشعواء والتي شنها تنظيم الدولة الإسلامية في وسائل التواصل الاجتماعي ضد الظواهري وتنظيم القاعدة، وهو ما خلط حسابات الظواهري نظرا لفاعلية تنظيم الدولة وتأثيره في المجال الافتراضي وخاصة في تويتر.
زعيم طائش:
أصبح الظواهري، ونتيجة لهذه المواقف، زعيما طائشا بعد أن كان يعرف بحكيم الأمة، فمبتغى حكمته الآن هو الحفاظ على مكانته وموقعه ضمن تنظيم منهك، يفتقر إلى أدنى مقومات البقاء والاستمرارية. لم يعد للظواهري مكانة أو قيمة علمية ضمن الأوساط الجهادية كما كانت سابقا، ولم تعد كلمته "مطاعة"، ولا قراره واجب التنفيذ. ولعل الرسالة التي وجهها الشيخ أبو بصير الطرطوسي والتي حملت عنوان " وقفات مع كلمة الشيخ الظواهري؛ شهادة لحقن دماء المجاهدين" أكبر دليل على تدني القمية المعنوية والاعتبارية لتنظيم القاعدة وقيادته.
وبناء عليه، فإن العلاقة بين التنظيمات الجهادية وقيادة القاعدة هي علاقة شكلية تفتقر إلى أسس تنظيمية حقيقية، وهي مرشحة في أي وقت للتصدع والافتراق، إذ يحاول كل الجانبين توظيف هذه العلاقة الشكلية لمصلحته على المدى القصير بانتظار توازانات ومعطيات جديدة قد تقود إلى واقع مغاير.
من كتاب "زمان الوصل" ضمن قسم "إسلام وجهاد"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية