أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

حزب الجمهورية... أمل الانتقال من لغو السياسة السورية إلى لغتها... مضر الدبس

كانت لحظاتُ تأسيس الحراك السوري لحظاتِ عِلمٍ و تنوير، لحظاتِ وعي بحقوق الإنسان وحقوق المواطنة أمامَ غطرسة الاستبداد وإمبراطورية الخوف، ولكن الثورة اليوم تجد نفسها في واقع يحمل في طيَّاته الكثير من الجهل والتأخر الفكري، بين استبداد مجرم جاهل علمانيّ الشكل والادعاء وسلفي المضمون، يكوّن حالة جهل مُؤسَس، وبعض الفئات "المتديّنة" شكلاً ولا دين لها مضموناً، تشبه النظام المستبد، وتكوّن حالة جهل مُقدَّس، وما بينهما من معارضات ببغائية تجيد الكلام ولا تستطيع التَحدُّث، تحمل نظريةً عرجاءَ لا سياسة فيها، وسياسةً مشوهةً لا نظرية لها، ووقعت في واحدةٍ من أخطر مطبات العمل السياسي، ألا وهي التجريبية، فقد مارست السياسة من دون التقيد برؤية فكرية لازمة وضرورية لخلق استراتيجيات سياسية، وبالتالي لم تكن المعارضة، بهذا المعنى الإمبيريقي، أكثر من فرق استعراض أمام الدم والدمار السوري. إضافة إلى التجريبية، انطلقت هيئات المعارضة عموماً من فرضية بكارة الأرض السياسية وكأن الماضي لم يحمل أي مكتسبات، وأن اللحظة التاريخية تبدأ من الراهن فحسب، فكوّنت ذهنيةً تنزع إلى العدميَّة الأمر الذي يُصعّب مهمة النهوض بالدولة والمجتمع، ويقدِّم الثورة بالمعنى الأسطوري فوق الواقعي الذي لا يحقق المأمول. 

مع هذا الوضع يصبح من المهم الانتقال من لغو السياسة إلى لغتها. وفي هذا تكمن أهمية حزب غير مؤدلج يُعقلن السياسة، ويجعل من كلام السوريين المتناثر لغةً تُفهم، فيضخ في السياسة من يتعقل ومن يتفكّر، وينطلق من الواقع ليصنع فعلاً معرفياً يُنتِج منظومة أفكار حديثة تنسجم مع جيل الشباب الفاعل بحيوية في عملية التغيير، ولتشكل أيضاً بديلاً لمنظومة أفكار الآباء القديمة السائدة، والتي تتضمن الوصايةَ كمفوم مسبق وبديهي، فضلاً عن كون عملية القياس بواسطتها هي عملية لا تاريخية كفعلٍ معرفي.هذا ما يجعل تأسيس حزب الجمهورية بذرة صحيَّة لإنتاج هذا الحزب/المؤسسة الذي ليس لدى أعضائه وهمٌ بأنهم المُخلِّصون بل هم، كما جاء في البيان التأسيسي "مصمِّمون على السير في طريق يعرفون مسبقاً أنها طريقٌ طويلةٌ وشاقةٌ، ويطمحون أن يشكل هذا الحزب شمعةً أو بذرة أمل، والهدف ليس الحزب بحدِّ ذاته، بل الوطن، فهم يدركون بوضوح أن حزبهم من أجل الوطن: سورية التي يعشقون ويحبون، ويسعون لتكون البلد الأجمل الذي يحتضن الجميع." وليس غريباً مع هذا الفكر أن يُنتِجَ الحزب صيغةً ناجعة للعمل الجماعي تقوم على "علاقة صحية بين الفرد والجماعة، حيث الأفراد لا يرون أنفسهم أكبر من الجماعة أو المؤسسة، والجماعة لا تقلِّل من شأن أي فرد من أفرادها الذين يتحاورون ويختلفون باحترام..." ليشكل هذا، بالعمق، نواةً لأسلوب الحوار العصري الذي يَنظُر للآخر كذاتٍ لها كرامة، وبالتالي يؤسس لثقافة الديمقراطية ضمن الدولة الوطنية المنشودة والتي "تقوم على سيادة القانون والمساواة التامّة في المواطنة، نساءً ورجال، وعلى إعادة بناء الهوية الوطنية الجامعة النابعة من المواطنة الحقة، وهي الخيمة التي يستظل بها الجميع سواسية من دون أي تمييزٍ عرقي أو ديني أو مذهبي أو جنسي.".

وبهذا يقدّمُ الحزبُ لغةَ الأمل التي تحاول النهوض من جحيم لغات الحرب، تلك الحرب التي نَظَرَ السوريون إليها منذ البداية على أنها كارثة تحمل طابع الجريمة، ويجب تفاديها بما تحمل من الهمجية والعودة بالحضارة والثقافة إلى عهود الهمجية الأولى.  لكن هذه الحرب، سرعان ما بدت محتومة وشرعت في التطاول إلى أن بلغت مبلغاً كبيراً، وها هي تزرع الخراب و الدمار حولنا، في الوقت الذي تدأب فيه عقولنا وقلوبنا على إدانتها. 

في ظل هذا الوضع المعقد، تبقى تلك المنظومة الفكرية العصريّة الواقعية التي تقارب الأشياء بطبيعتها النسبيّة المتغيرة وتضع مقتضيات المصلحة الوطنية في أولويّة التنفيذ والتفكير، هي أولى الخطوات وأهمها باتجاه استعادة العقل والوطن. من هنا، فإن حزبَ الجمهورية يمكن أن يكون بذرةً وفيرة النتاج، وهذا مشروط بمحافظة أعضائه على الروحية الجماعية والحوارية التي تجلت عبر أشهر عديدة من العمل قبل مؤتمرهم التأسيسي، وبعملهم الجماعي المنسق باتجاه توفير شروط نماء هذه البذرة  باستمرار.

(144)    هل أعجبتك المقالة (164)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي