في ليلة هادئة يتخللها الكثير من الرتابة والضجر في بلاد اللجوء ، وأثناء تصفحي كغيري من السوريين لموقع التواصل الاجتماعي فيس بوك ليطئنوا على بلادهم عن بُعد ، فجأة بدأت الأخبار تنهمر من درعا البلد ، إنها مسقط رأسي وطائرات النظام تعكر صفو تلك الليلة بأربع براميل متفجرة على حي الأربعين ، ثم بدأت أتلقف مقاطع الفيديو فور رفعها ونشرها ؛ مقاطع تظهر اليل المزدحم ، الضجيج والدمارٌ ، الآهات والأنين ، وشاب ملقى على قارعة الطريق يضع يده على جبينه وينزف بشدّة من ساقه اليمنى ، وآخر يصرخ : " يا الله ، يا الله ..
بعيد ساعات قليلة ، بدأت الاتصالات لنعلم بوصول الجريح نفسه وهو " محمد موسى – 22 عاما ً " إلى مستشفيات إربد شمال الأردن وتم بتر قدمه اليمنى من فوق الركبة ، ثم ما لبث أن نـُـقل ومع ساعات الفجر الأولى إلى مستشفى في عمّان لاستكمال علاجه ، ذهبنا على الفور لزيارته ، كان محمد بادئ الأمر غائبا ً عن الوعي أو تحت أثر المخدّر ؛ بعدها فتح عيناه وبدأنا بمواساته ، فقال : الحمد لله وكررها لأكثر من مرة ، كان في صوته عصارة من الألم والقهر ، ثم غلّت الدمعة في عينيه وانهار بالبكاء متفوها ً بكلمات وجُمل غير مترابطة مفادها : أن بشار الأسد عدو السوريين هذا نعرفه ولا يختلف عليه اثنان ، أما الذي يؤلمنا ويحرق قلوبنا هم أعدائنا الداخليين المحسوبين على الثورة ويتقلدون مناصبا ً حساسة في مفاصلها ، ويعيقون تقدمها واصفا ً إياهم بتجار الدماء وتجار الحرب ؛ ثم تذكر ألمه الحقيقي وبدأ يصرخ إلى أن جاء الطبيب وأعطاه حقنة مسكنة للألم ، ثم نام .
في اليوم التالي ، بدى حال محمد أفضل من الأمس ، وببتسامة خفيفة وبوجهه المصفر الشاحب استقبلنا في غرفته ، وجلسنا بالقرب من سريره ، وبدأ يشرح لنا كيف كان يمشي في أحد طرق درعا البلد في الساعة الحادية عشر ليلا ً ، كان يسمع صوت الطائرة في السماء وكان الظلام دامسا ً حيث لا نورٌ ولا كهرباء ، وأكمل : بدأت بالركض حين صرت أسمع صوت أزيز البرميل النازل من السماء دون أن أعرف ما إذا كان الاتجاه الذي أركض نحوه هو الاتجاه الصحيح أم لا ، فجأة دوى صوت الانفجار وسقطت مدركا ً في لحظتها أن شظايا ذاك البرميل المتفجر قد طالتني ، وأدركت على الفور أنني خسرت قدمي . وبقيت ملقا ً على الأرض لا حول لي في أمري ولا قوة ، إلى أن جاء البعض ونقلوني إلى مستشفى الشهيد عيسى عجاج الميداني ، وغبت عن الوعي لأجد نفسي بعدها في الأردن .
وأثناء حديثه ، دخل علينا ضيف من غرفة مجاورة هو : " ع . م – 14 سنة " ، طفل سوري رفض التصريح باسمه قائلا ً لا أريد إشهار اسمي ولا صورة وجهي لأنني أريد أن أعود إلى مدرستي ، " ع . م " هذا في الصّف الثالث الإعدادي ، بترت قدمه اليمنى بعد غارة جوية نفذها طيران النظام استهدفت مدرستهم في مدينة المزيريب غربي درعا قبل شهرين ونصف تقريباً ، ارتقى في هذه الغارة عدد من أصدقائه بالمدرسة إلا أنه كان من الناجين .
" ع . م " وعند دخوله إلى الغرفة التي كنا نجلس بها ، كان متفائلاً للغاية لأنه يجرب لأول مرة طرف صناعي مستعينا ً في مشيه على عكازتين سوف يستغني عنهما بعد أيام معدودة بحسب ما أخبره الطبيب ، ثم جلس وبدأ يحاور " محمد موسى " ويهوّن عليه مصيبته ، ويخبره أن يبقى متفائلا ً وأكّد له أن نصف علاجه نفسي ونصحه أن يبتعد قدر الإمكان عن الإحباط ، ثم طمأنه بكلمات رجولية يتفوه بها طفل ، قائلاً : بعد شهرين تقريباً سيضعون لك طرف صناعي ستخفيه تحت البنطال ، حينها سوف لن يلاحظ أحد أنك بقدم واحدة ، ولن تكون محرجاً بإعاقتك ، وستستطيع المشي مجددا ً.
قل ما تسلط وسائل الإعلام أضوائها على الجرحى السوريين ، الآن مع دخول الثورة السورية عامها الرابع ، تشير الإحصائيات العامة إلى أرقام كارثية لأعداد الشهداء والمعتقلين والمفقودين والمهجّرين واللاجئين ، والجرحى فإحصائيات اللجنة الدولية للصليب الأحمر تحدثت عن 500.000 جريح سوري ، إلا أنه لا يوجد حتى الآن إحصائية رسمية لأولئك الذين وضعتهم إصابتهم في خانة الإعاقة الجسدية المستديمة ، لكن مصادر طبية أكّدت لنا بأن عدد من فقدوا أطرافهم داخل البلاد خلال السنوات الثلاث الماضية تجاوز العشرين ألفاً ، هذا وأشارت المصادر ذاتها أن بعض الجمعيات الخيرية بدأت مؤخراً في المساهمة بتوفير أطراف صناعية لمعظم المصابين .
أوضحت المصادر الطبية أيضاً أن أغلب حالات بتر الأطراف ناجم عن القذائف والصواريخ التي تطلقها الثكنات العسكرية النظامية تجاه المدن والبلدات السورية ، وأشارت المصادر أن عدد كبيراً من المصابين كان ضررهم ناجم عن البراميل المتفجرة ومخلفات القنابل العنقودية التي تلقيها طائرات النظام على المناطق السكنية ، وشددوا على أهمية توعية الناس ولا سيما الأطفال بعدم الاقتراب من القذائف التي لم تنفجر بل وحضّهم على الابتعاد عنها وإخبار العسكريين المختصين عن موقعها ، وقالت المصادر الطبية أن عدداً من الجرحى الذين التقوهم سابقاً ، كانت إصابتهم ناجمة عن إنفجار أحد الألغام التي زرعها النظام في العديد من المناطق والطرقات الحدودية التي يسلكها المدنيين أثناء هروبهم للبلدان المجاورة لسوريا ، بحثاً عن اللجوء في مكان آمن على حياتهم وحياة أطفالهم .
صحفي سوري ، الأردن – عمّان
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية