أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

إضاءة على واقع الممارسات الأمنية للنظام السوري... فيكتوريوس بيان شمس*

تميّزت بدايات الثورة السورية بظهور مناخات ومساحات واسعة من الحرية، كانت تتّسع للمختلف برأيه عن المجموع، ليعبّر عن آرائه وهواجسه بحرية دون أي محاسبة، في لحظة كانت تبدو فيها سلطة الدولة في حالة إرباك أمام مدٍّ جماهيري بدأ بالتعاظم منذ اللحظات الأولى لانطلاق الثورة.

لعل من يعرف التركيبة الاجتماعية السورية قبل انطلاق الثورة يذكر ما كان يسمّى وقتها "كتبة التقارير" من المتعاملين مع "أجهزة الأمن"، والذين كانت النسبة الأكبر منهم من منتسبي "حزب البعث العربي الاشتراكي"، فكان هذا الحزب غطاء لممارسات شبكة أمنية متغلغلة في المجتمع من رأسه حتى أخمص قدميه، تراقب الناس في مأكلهم ومشربهم وكل تفاصيل حياتهم، وتحاسبهم فيما ارتكبوا، وفيما لم يرتكبوا من التلفيقات الكيفية لهذه الأجهزة ذات الامتداد التاريخي الطويل في سوريا، منذ عبد الحميد السرّاج "بمكتبه الثاني" سيء الصيت وما قبله. 

لكنها تعزّزت بشكل أكبر منذ وصول "حزب البعث" للسلطة في العام 1963 وإعلانه "حالة الطوارئ" في البلاد، ثم سن في العام الثاني لوصوله 1964 ما يسمّى "بقانون حماية الثورة" الذي ينص على "تجريم كل من يناهض أهداف الثورة ويقاوم النظام الاشتراكي بالقول أو الكتابة أو الفعل ومعاقبته بالسجن المؤبّد أو حتى الإعدام". ثم في العام 1979 عاد النظام ليصدر القانون رقم (52) الذي ينص في المادة التاسعة منه: "الاعتقال لمدّة لا تقل عن خمس سنوات عن كل فعل يُقصد منه منع حزب البعث من مهامه المنصوص عليها بالدستور والقانون". وبالطبع، فإن الدستور ينص في المادّة الثامنة منه والتي أقرّها "مجلس الشعب" في العام 1973 على أن "حزب البعث العربي الاشتراكي قائد الدولة والمجتمع". هذه المادّة التي ألغتها "اللجنة المركزية لحزب البعث" في اجتماعها أواسط آب 2011 على خلفية انطلاق الثورة بشكل يخالف "الباب الثالث" الذي يتضمن آليات تعديل الدستور، والتي تشترط: "لرئيس الجمهورية كما لثلث أعضاء مجلس الشعب حق اقتراح تعديل الدستور"، وهو ما يدلّل على عكس ما كان مُفترضاً، أي أن إقرار أو إلغاء مواد الدستور أوي شيء يتعارض مع شروط بقاء النظام واستمراره، هي في الواقع من صلاحيات هذا الحزب وأجهزته الأمنية فعلياً. 
كل هذا كان مقدّمة لتضخّم "أجهزة الأمن" وسطوتها على المجتمع الذي عانى ويلاتها على مدى عقود، فكبّلت حرية الرأي والتعبير، ليدفع الكثير من أبناء سوريا أعمارهم التي التهمتها المعتقلات، لأتفه الأسباب. ولأن هذه القضية كانت واحدة من القضايا التي تقض مضاجع السوريين جميعاً، طالب بيان "عشائر درعا" الذي صدر على إثر اعتقال مجموعة من الأطفال، أكبرهم في الرابعة عشرة من عمره في 19/3/2011 في بنده الثالث والأخير بالإفراج عن جميع معتقلي الرأي في سوريا كشرط من شروط الهدنة مع النظام بعد ما ارتكب في درعا. إلا أن تعنّت النظام وعنجهيته في التعاطي مع مطالب الناس كان سبباً في تفاقم الوضع الذي دخل طور المأساة في مآلاته الأخيرة.

لكن ما الذي يُفهم من المواد أعلاه؟ لمواجهة من سُنّت هذه القوانين والتشريعات؟

من الواضح أن أمن الوطن الذي لم يُذكر ولا مرة في مواد هذه النصوص والقوانين والتشريعات اختصر بأمن الحزب أو الزعيم، وهو ما اقتضى اعتماد آليات لتنفيذها، كان من أبرزها ظاهرة "كتبة التقارير" التي كانت منتشرة في كل مجالات الحياة، للدرجة التي وصلت فيها الأمور لانعدام الثقة بين الأخ وأخيه "فللحيطان آذان" كما كان يُقال!

وللمسألة انعكساتها على مجمل الحياة السياسية، بمعنى: حتى الأحزاب والمنظّمات" التي كانت موجودة، و"متحالفة" مع "حزب البعث" كانت تعمل بناءً على هذه القواعد الماثلة أمامها، وهو ما يُفسّر حلة الشلل والاستتباع والهزال الذي أصابها منذ رضخت.

هذا واحد من الأسباب التي تفسّر الانفجار الشعبي الكبير في آذار 2011، ويفسّر تراجع هذه الأحزاب التي استغنت عن دورها منذ زمن. وعدم رهان الناس عليها، لا بل كان الشعب السوري ينظر إليها كجزء من التركيبة الحاكمة والمسؤولة عمّا وصلت حالهم إليه.

مع انطلاق الثورة كانت المشكلة الاجتماعية التي خلّفتها ممارسات النظام الأمنية تتّسع بحيث وقع المتعاملون مع الأمن في مأزق شديد التعقيد وعلى مراحل بالغة الدقّة. ففي البدايات، كانوا مازالوا يمارسون أدوارهم كما العادة، وكانت حرية الرأي والتعبير في الأوساط الشعبية، هي الظاهرة الأبرز، فالنقاشات والاختلافات والتوافقات على أشدّها في ظل حدث وطني جلل بدأ يعمُّ أرجاء البلاد، فكان الرأي المختلف مع الثورة مقبولاً في البيئة التي انطلقت منها. في المراحل التالية كان اشتداد قمع النظام واستخدامه كامل ترسانته العسكرية في مواجهة المناطق المنتفضة، يُجبر سكّان هذه المناطق على استخدام السلاح دفاعاً عن أنفسهم وأعراضهم أمام همجيته. ومن هنا اختلفت كل المقاييس، ليس في التعاطي مع عملاء الأمن فقط، بل بالفرز المجتمعي أصلاً، لأن قسما كبيرا من التركيبة الاجتماعية المتردّدة في بداية الأحداث، كانت قد حسمت أمرها تحت تأثير هذه الممارسات الأمنية التي ما كانت تميّز بين موالٍ أو معارض، بل بين منطقة بكاملها، إمّا موالية، أو معارضة. 

أمام هذا الواقع اشتد الانقسام، وانعدم في مرحلة لاحقة وجود تلك الفئة الرمادية، أو ما كان يصطلح عليها وقتذاك "الأغلبية الصامتة". هذا ما ترك انعكاساته أيضاً على الفئات التي كانت متعاملة مع أجهزة الأمن، فكانت ردود الفعل الشعبية عليهم عنيفة في محطّات كثيرة.

الثورة، عملية تغيير اقتصادي، سياسي، اجتماعي شامل، لا تأتي من فراغ، بل تتولّد من أحشاء ما قبلها مهما كان حجم التدمير المترافق معها، لكنها بالضرورة في هدمها للقديم المتراكم؛ تبني الجديد على أنقاضه، فمن قام على الجَور والظلم، لن يستبدله بمثله.

*كاتب سوري
(169)    هل أعجبتك المقالة (155)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي