أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

حرب الافتراء على التاريخ السوري: جريمة الأسد التي تفوق التصور!

حافظ الأسد

كنت طفلا في المرحلة الابتدائية حين طلبت منا مُدرّسة الصف، كتابة موضوع تعبير عن الحركة التصحيحية التي قادها (الرفيق المناضل حافظ الأسد) ولما لم أفهم في كل اجتماعاتنا الطلائعية ما هي: الحركة التصحيحية. لجأت إلى والدي لأسأله: (بابا... شو هي الحركة التصحيحية؟) فأجابني بلا تحفظ: (انقلاب عسكري قاده حافظ الأسد). 

طبعاً فهمت بحس الطلائعي، أن والدي اختصر الصفات والألقاب الكريمة التي كانت يجب أن تسبق اسم حافظ الأسد، فاجتهدت في كتابتها كاملة... وذهبتُ إلى المدرسة دون أن أتخيّل أنني سألقى من التوبيخ ما لم يلقه أكسل كسالى صفنا.

في ذلك الزمن من نهاية سبعينيات القرن العشرين، لم يكن نظام التعليم قد أُفسِد وامتلأ بالمخبرين والمخبرات وأولاد الحرام، كما حدث فيما بعد. وبدل أن يستدعى والدي للتحقيق في المخابرات بتقرير من المعلّمة، انتحت بي جانباً، وسألتني:
- من أين أتيت بهذه المعلومات يا بني؟! 
- من والدي آنسة. 
- وماذا يعمل والدك؟
- تاجر أقشمة في الحريقة. 
- حسناً... إنها خاطئة، ويجب ألا تكتبها مرة أخرى... سأكتفي بتوبيخك هذه المرة، لو لم تكن من الطلاب المميزين عندي لوضعت لك صفراً مكعباً. اذهب واكتب الموضوع بلا هالعلاك.
- طيب آنسة... شو هي الحركة التصحيحية؟! 
- الحركة التصحيحية يا ابني قادها السيد الرئيس حافظ الأسد في السادس عشر من تشرين الثاني عام 1970 وكانت اللبنة الأساس في بناء سوريا الحديثة. 
- أعرف آنسة... ولكن ما هي؟! وقادها ضد من؟!! 
- ضد أعوان الاستعمار وعملاء الرجعية والإمبريالية العالمية... اكتب هكذا ولا توجع رأسي! 
كتبتُ ما قالته الآنسة، وأنا لا أعرف حقاً ماذا فعل حافظ الأسد في (حركته التصحيحية) وماذا صحّح؟! ولم أستطع أن أفهم أن كلام والدي البسيط في تعريف الحدث كان صحيحاً، إلا بعد أن شققتُ دروبي الخاصة إلى المعرفة، وإلى كتب التاريخ، وإلى الكتب الممنوعة في سنوات الشباب الأولى. 

أجل... كانت الحركة التصحيحية التي قادها (الرفيق المناضل) انقلاباً عسكرياً، استغّل فيه حافظ الأسد أزمة إقليمية مع الأردن، رافضاً التدخل لنصرة الفلسطينيين في أحداث أيلول الأسود، ثم انشغال الشارع العربي بوفاة عبد الناصر، ونفذ انقلاباً على نظام صلاح جديد الذي كان يحكم من خلف ستار الرئيس نور الدين الأتاسي، حيث كان جديد قد عقد اجتماعاً للقيادة القطرية لحزب البعث بين 30 تشرين الأول، و12 تشرين الثاني عام 1970 قرر بالإجماع إقالة وزير الدفاع حافظ الأسد، مع رئيس الأركان مصطفى طلاس من منصبيهما، فما كان من حافظ الأسد إلا أن نفّذ انقلاباً سهلاً بمعاونة أخيه رفعت وصديقه مصطفى طلاس، اعتقل فيه أركان الدولة، وزج على إثره بصلاح جديد ورئيس الجمهورية الطبيب نور الدين الأتاسي في السجن، ولم يسمح بخروج الأول إلا جثة هامدة، أما الثاني فقد أخرجه من السجن بعد 22 عاماً، إثر التأكد من تفشي السرطان في جسده، ليموت بعد أيام من وصوله إلى باريس في الثاني من كانون الأول عام 1992، ثم عاد إلى سوريا نعشاً مسجى ليدفن في مدينته حمص، وسط تعتيم إعلامي لا مثيل له! 
لا أريد من هذا المقال، أن أقدم موضوع تعبير جديد عن الحركة التصحيحية، ولا عن أحقاد حافظ الأسد التي لا تجارى، ولؤمه الإجرامي الذي خبره السوريون جيداً في كل سنوات حكمه ومجازره... لكنني أردت أن أقدم فقط نموذجاً صغيراً عن الحرب التي شنها نظام حافظ الأسد، على ذاكرة التاريخ السوري بحلوها ومرها.. بل وحتى على تسمية وفهم الأحداث التي تتصل بتاريخه الشخصي هو! 
لقد عادى نظام حافظ الأسد التاريخ المعاصر لسورية عداءً مراً. شطب أسماء خصومه من كل الكتب المدرسية، وسائر وسائل الطباعة والنشر. لم يسمح إلا ببقاء ببعض اللافتات التي تذكر اسم الرئيس شكري القوتلي، ومن قبله تاج الدين الحسني الذي نقرأ اسمه على مبنى ثانوية التجهيز (جودت الهاشمي) بدمشق.. وأحيانا اسم هاشم الأتاسي في أماكن أخرى. اختزل كل تاريخ سوريا بفترة الانقلابات واللا استقرار التي أنهتها ثورة الثامن من آذار (المجيدة) ثم جددتها الحركة التصحيحية (المباركة). صار كل شيء من منجزات الحركة التصحيحية، وصار اسمه (باني سورية الحديثة)، التي لا يعرف الكثير من السوريين شيئاً عن تاريخها، منذ جلاء جيوش الانتداب الفرنسي عن سوريا. 

لاحق حكم البعث والأسد التاريخ حتى على صفحات الصحف والمجلات، التي أغلقت وتهاوت منذ أصدرت ما سميت (ثورة الثامن من آذار) قراراً بإغلاق الصحف والمجلات الخاصة، ومصادرة وسائل الطباعة والنشر، وإسكات كل صوت حر، لينتهي الأمر بزمن ببغاوات (البعث- الثورة- تشرين) ومجلات (الفرسان) و(المناضل) و(الجندي العربي) و(جيش الشعب)! 
رُفعت كل لافتات تدشين المباني التي تحمل اسم الرئيس أديب الشيشكلي، وصار اسمه وحده (الديكتاتور)... ومن سخرية الأيام السوداء وثقافة النفاق التي صارت قيمة القيم، أن حسن. م. يوسف ينبش في دراسته المضحكة عن سعد الله ونوس في كتاب (رواية اسمها سورية) الذي تَرجَم لما قيل إنها: (أهم مئة شخصية في التاريخ السوري المعاصر)... ينبش كتابات الفتى سعد الله ونوس في أوراقه الخاصة في الخمسينيات عن ديكتاتورية أديب الشيشكلي، وقد أخرسهم العمى الطائفي عن رؤية فظائع حافظ الأسد ومجازره! 
أما الكاتب العلوي الآخر (قمر الزمان علوش) فلم يكتفِ بتقديم نفس الصورة عن أديب الشيشكلي في المسلسل الرديء الذي كتبه عن نزار قباني، بل افترى على الرئيس شكري القوتلي ولفق على لسان والد نزار قباني كلاماً يشتمه فيه، وقد كتبت في مقالة نقدية عن ذلك في صحيفة (القدس العربي) عقب عرض المسلسل عام 2005 أكشف هذا التزوير... وأستعيد جزءاً منها هنا، حتى لا يقال إننا كنا صامتين متفرجين: 
"ففي مسلسل نزار قباني يشتم الرئيس شكري القوتلي.. وتلفق له التهم، ويقال على لسان والد نزار.. إن هذا الرئيس الذي انفض عنه الناس، قد قام أزلامه في العرض العسكري في ذكرى عيد الجلاء بإجبار الناس على الجلوس في الكراسي الفارغة، بعد أن جمع طلاب الجامعة وأجبروا على ذلك عنوة... لأن الناس اكتشفوا حبه للوجاهة والسلطة فانفضوا عنه.. في حين تذكر ابنة شقيق الشاعر نزار قباني، الكاتبة رنا القباني في مقالتها المستهجنة لهذا التزوير أن جدها كان واقفا على الصندوق الانتخابي للرئيس القوتلي.. فكيف يمكن أن يشتمه! إن شكري القوتلي لمن لا يعرف هو الزعيم العربي الوحيد الذي تنازل عن الحكم من أجل الوحدة، حين تنازل لجمال عبد الناصر ووقع معه اتفاق الوحدة بين مصر وسورية عام 1958، وهو الزعيم الوحيد في سوريا الذي عاد كرئيس للجمهورية بعد أن خرج من الحكم، ولم يزور الانتخابات بنسبة 99.99 بالمائة وهو يمسك بمقاليد السلطة وأجهزة القمع والطغيان.. وثمة الكثير من المآثر العظيمة التي لا يتسع المجال لذكرها الآن، في حكم هذا الرجل، الذي يحاول المسلسل تدنيس سيرته زورا وبهتانا.

أما الرئيس أديب الشيشكلي قائد الانقلاب الثالث في سوريا، فرغم ما عرف عنه من سلوك ديكتاتوري.. يذكره التاريخ، فلم يكن صانع ومؤسس تقاليد الفساد التي يعاني منها المواطن السوري اليوم، كما صوره المسلسل، فقد كان في عهده صحافة وحراك اجتماعي وسياسي، ولم يُصدر قرارا بإغلاق وتدمير كافة الصحف والمجلات الخاصة كما فعل حزب البعث في انقلابه العسكري عام 1963، ويكفي أن التاريخ سيذكر له، أن قرر الانسحاب من الحكم، لأنه لم يقبل أن يقتتل الجيش السوري في أواخر عهده.. ولم يرض أن يوجه جندي سوري بندقيته إلى صدر جندي سوري آخر حين حدث انشقاق ضده .. فانسحب تاركا كرسي الرئاسة، في حين بنى رؤساء آخرون أتوا بعده حكمهم على سلسلة من المجازر والمذابح التي سيذكرها التاريخ بالتأكيد.. مهما طال عهد الكذب والتلفيق والتزوير"!
وأعود إلى حرب نظام الأسد وكتّابه الطائفيين على التاريخ السوري ورموزه لأقول: كان الهدف من التعتيم على التاريخ السوري يتخلص في شعار: (سوريا الأسد) فهذه الـ (سوريا) اللقيطة، الغارقة في الجهل والتخلف، التي كانت صحراء مقفرة، وقرى لا تصل إليها الكهرباء، وساحة للانقلابات العسكرية، لا يجب أن نعرف عنها بعد خروج الفرنسيين، سوى أنها صارت سوريا الأسد... التي وجدها على قارعة الطريق فصنع منها حافظ الأسد وطنا، تبين فيما بعد أنها صارت سجناً كبيراً ومزرعة يورثها لابنه!!!
ولأن الجهل بالشيء أسهل طريقة لتسويق كل الأكاذيب، فقد سرت بين السوريين لسنوات طويلة قناعة مفادها: لن يأتينا أفضل من حكم الأسد. كانت هذه القناعة يقولها غير الراضين عن حياتهم ومستقبل أبنائهم بنوع من الرضا والتسليم... ولو أتيح لهم أن يطلعوا على حجم الحراك السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وعلى برلمان الخمسينيات الحر، وعلى دستور الخمسينيات الذي كان من أرقى دساتير الدول في المنطقة... لأمكن لهم أن يلعنوا الساعة التي ولد فيها الأسد الأب، وليس حركته التخريبية التي أوصلته إلى الحكم وحسب! 
إن بناء ذاكرة وطنية منصفة ينبغي أن يكون هدفاً من أهداف ثورتنا اليوم... وليست القصة في تلميع التاريخ، ولا في رؤية الماضي خالياً من الشوائب والعيوب... لكنها في رؤية الحقيقة التي تحفظها الكتب التي غُيبّتْ، والصحافة التي وُئدت، والذاكرة العامة التي دُجنّت... وأعتقد أن السوريين دفعوا ثمناُ باهظاً لتفريطهم بدروس التاريخ، من أجل صناعة مستقبل، سدت الديكتاتورية كل آفاق الأمل فيه... حتى إذا ما تابعت ثورة الحرية والكرامة دفع هذا الثمن... أمكن لنا أن نعود لنقرأ من جديد... بدل أن نتلهى بلعن الظلام الأسدي وحسب!

من كتاب "زمان الوصل"
(244)    هل أعجبتك المقالة (165)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي