منذ أعلن عن قيام تنظيم دولة العراق والشام في 9 نيسان 2013م، ولم يزل يشكل عقبة وخصماً لقوى الثورة السورية والتيارات الإسلامية كافة حتى القاعدية منها، ولم ينهِ الصدام المسلح معها منذ 3 كانون الثاني 2014م وجود التنظيم كخصم مهدد، باعتباره انتهى بانحسار سيطرة التنظيم الأحادية على الرقة وأجزاء من ريف حلب الشرقي، إضافة لمناطق في ريف الحسكة حيث آبار النفط.
ورغم أن قتال التنظيم بدأ من التشكيلات المحلية ذات الصبغة الإسلامية، إلا أنه لم يلبث أن أضحى الصراع مع جبهة النصرة طاغياً على أخبار هذا الصدام الذي يتداخل فيه الايديولوجي مع الميداني مع الاقتصادي، بما يتضمنه من جدلية المحلي والمعولم في التجارب الجهادية.
ولا يمكن هنا قراءة التمدد الميداني المستمر، والهجوم على مناطق سيطرة الثوار، بمعزل عن ايديولوجيا احتكار الحق وتمثيل الإسلام لدى التنظيم، وعن النزعة العدمية فيه، العدمية التي يُقنع بها العناصر لتسهيل انتحاريتهم، دون أن تتصرف قيادة الدولة على أساسها، بل على أساس مصالح اقتصادية وحسابات جيوسياسية وخطط ميدانية، إن العدمية هنا نزعة كامنة في منطق الحشد والتعبئة والمآل، ولكن الانفصال الايديولوجي ما بين قيادة الدولة التي تطغى فيها العناصر البعثية، والأفراد المتحمسين لتمثيل الله في الأرض، تجعل من هذه العدمية إحدى استراتيجيات تثبيت السلطة واستمرارية التأثير ميدانيا.
البوكمال ومركدة والاغتيالات:
في 30 آذار 2014م بدأت المواجهات من جديد في بلدة مركدة في ريف الحسكة، ما بين جبهة النصرة وتنظيم الدولة، بعد سيطرة النصرة على بلدة الشدادي في ريف دير الزور، والتي كانت منطقة استراتيجية بالنسبة للتنظيم كممر نحو العراق وكمصدر للنفط، الأهمية المشابهة لأهمية بلدة مركدة حيث النفط والممر الأخير للتنظيم نحو العراق، ما يفسر تفاني التنظيم في الدفاع عنها.
امتازت معركة مركدة بعنف وحشي أدى لمقتل عدد كبير من الطرفين، جبهة النصرة وتشكيلات عشائرية من دير الزور الذين فقدوا أكثر من خمسين مقاتلاً تم التمثيل بجثثهم، في مقابل تنظيم الدولة الذي يعتمد بنية عشائرية هناك أيضاً والذي فقد أكثر من مئة مقاتل (حسب شهادات مقاتلين من النصرة)، حيث تقوم الايديولوجيا على البنية العشائرية في تلك المناطق مع غلبة العشائر المعارضة للتنظيم على تلك التي بايعته لأسباب مختلفة (عشائر الشحيل معروفون بأنهم عماد النصرة الرئيس في دير الزور، بينما عشائر البكير مبايعون لتنظيم الدولة)، بينما يستمر الصراع هناك حتى الآن.
في 10 نيسان 2014م، بعد بدء النصرة وتشكيلات الجيش الحر في دير الزور فتح جبهة المطار المهمة، ومع إرسال الجبهة رتلاً عسكرياً إلى حمص تحت عنوان "فك الحصار عن حمص"، استغل تنظيم الدولة هذا الانشغال وتشتت الجبهات بإرسال رتل ضخم من حوالي 70 سيارة محملة بالمقاتلين لتقتحم البوكمال فجراً.
اندلعت معركة شعبية عشائرية منذ اقتحام المدينة شاركت فيها جبهة النصرة بقياداتها الأولى، وانتهت بطرد التنظيم من المدينة، وفقدان خمسين شاباً من مقاتلي العشائر والنصرة في محاولة طرد التنظيم.
في 16 نيسان 2014م، تمت عملية اغتيال لأمير جبهة النصرة في إدلب (فاتح رحمون) والمعروف بـ (أبو محمد الفاتح)، قُتل في العملية أبو محمد مع شقيقه وزوجتيهما وأبنائهما، في بلدة رأس الحصن في ريف إدلب، و استطاعت الجبهة القبض على عناصر ممن قاموا بالعملية بعد مقتل آخرين فجروا أنفسهم إثر ملاحقتهم، واتهمت تنظيم الدولة باغتياله ما نفاه التنظيم عبر قيادييه وأنصاره بدوره.
ولم تكن هذه أول عمليات اغتيال مخططة لقيادات خصومه يقوم بها التنظيم:
ففي 23 شباط الحالي اغتيل (أبو خالد السوري) أحد قيادات الجيل الأول للتيار السلفي الجهادي وأحد مؤسسي حركة أحرار الشام، عدا عن الكمين الذي وقع فيه رتل ألوية صقور الشام من الجبهة الإسلامية في منطقة شاعر في ريف حماة بتاريخ 2 شباط 2014م حين قتل التنظيم القائد العسكري لألوية صقور الشام (أبو حسين الديك) وقائد لواء شهداء إدلب (أبو بكر الباشا) وكثير من العناصر بعد اختطافهم وتعذيبهم، وهذا عدا عن قتل التنظيم لكثير من القيادات في المعارك بعد الصدام، أو في معتقلاته قبل الصدام.
وهذا هو الأسلوب المشابه لما اتبعه التنظيم في مواجهة الصحوات في العراق، حسب الشعار المشهور الذي يقول "جئناكم بالكواتم واللواصق"، ويستبطن هذا الشعار طبيعة المواجهة، حيث يكون الطرف الآخر في محل الدفاع عن هجوم الدولة وتمددها، الأمر الذي يتكرر منذ استقرار التنظيم في الرقة وبلدات الباب ومنبج وجرابلس.
ماذا يعني بقاء الدولة؟
أضحى واضحاً أن النظام يتمدد في حمص وريف دمشق ليكون مسيطراً على المنطقة الوسطى المتصلة بالساحل، مع تمدد المعارضة في الجبهة الجنوبية في درعا والجبهة الشمالية في حلب والساحل، لتكون الجبهة الشمالية مرتكز الثوار الرئيس والأكبر والأكثر عولمة واستدخالاً في الصراعات الإقليمية من طرفي القتال، وتنعزل هذه الجبهة عن الجبهة الجنوبية وريف دمشق بسيطرة النظام المستمرة على بلدات القلمون وحمص، وتنعزل عن الجبهة الشرقية التي تشكل عماداً مهما للموارد المالية والبشرية للقتال بسيطرة التنظيم على الرقة، لتتحول مناطق سيطرة المعارضة إلى جبهات معزولة، بينما سيطرة النظام على منطقة متصلة تتمدد وتستمر بالهجوم على المناطق المحررة، بالتوازي مع سيطرة التنظيم على منطقة متصلة تتمدد وتستمر بالهجوم على المناطق المحررة والحركات الجهادية الموجودة فيها.
إن بقاء التنظيم كوجود جغرافي أو بشري بحد ذاته يؤول حتماً إلى ضرب الحركات الثورية أو الجهادية حوله، واستمرار الاغتيالات والهجوم على مناطق سيطرة المنافسين، وهذا يشمل الجميع إلا النظام، وأول ما يشمل الحركات الأقرب لتنظيم القاعدة التي أعلن الناطق باسم التنظيم (أبو محمد العدناني) قطع الخيط الأخير معها في كلمته "ما كان هذا منهجنا ولن يكون" التي صدرت في 18 نيسان 2014م، والتي قال فيها:
" تنظيم القاعدة اليوم لم يعد قاعدة الجهاد فليست بقاعدة الجهاد من يمدحها الأراذل ويغازلها الطغاة ويناغيها المنحرفون والضالون..... ليست قاعدة الجهاد من يتخندق في صفها الصحوت والعلمانيون..... إن القاعدة اليوم باتت قيادتها معول لهدم الدولة الإسلامية والخلافة القادمة."
خاتمة: سؤال العمل
فيما يبدو أن التنظيم قابل للتصالح مع وجود النظام، كدولة في مقابل دولة، ما يظهر من خلال العلاقات الاقتصادية وحتى التنظيمية بينهما في مناطق سيطرته، إلا أنه لا يمكنه التصالح مع وجود الحركات الإسلامية خاصة كمنافسة على شرعية التمثيل، وعلى احتكارية الجهاد، المنطق نفسه الذي يتصرف وفقه النظام الذي يتوقف عن استهداف أي منطقة يسيطر عليها التنظيم.
وإضافة إلى المصالح الميدانية والاقتصادية، حيث وفرت سوريا مساحة آمنة واسعة للتنظيم لأول مرة في تاريخه، وحجماً ضخماً من الموارد الاقتصادية السهلة، فإن النزعة العدمية المتنامية في خطاب التنظيم وايديولوجيا الحشد والتعبئة، والإقصائية المطلقة تجاه أي وجود أو شرعية إسلامية خارجه، ما يطرحه شعار "باقية" هنا هو أن التنظيم لا يتعالى على الشرعية الاجتماعية والدينية فقط وإنما على التاريخ نفسه، حيث تبلغ نزعة الانفصال عن الواقع المعيّن وتخيل القتال ضمن الزمن المقدس (الميتا تاريخ) أقصاها رغم حضورها لدى السلفية الجهادية بنسب متفاوتة.
الخلاصة هنا أن المصالح الموضوعية والنزعات الذاتية لدى تنظيم الدولة، تجعل اليقين بالبقاء مرتبطاً بالضرورة بالسعي نحو التمدد وتدمير أي مشروع منافس.
وبالتوازي مع الحذر من الخلايا النائمة وسط المناطق المحررة، وبين من انشقوا عن التنظيم خاصة، فإن التصدي للتنظيم لا يكون بانتظار تمدده الحتمي ولكن يجب أن يستهدف مراكز قوته العسكرية المتنقلة أو الجغرافية الثابتة:
عسكرياً باستهداف رتل عمر الشيشاني الذي يمثل القوة الضاربة للدولة، الذي تستدعيه في الاقتحامات وحين تستعصي عليها المناطق، وتعتمد عليه الدولة في المقام الأول، ثم على كتيبة البتار الليبية، ثم على مجموعات متفرقة أقل تنظيماً وقوة.
أما جغرافياً، فإن قطع طرق مرور التنظيم إلى العراق، وقطع اتصال مناطق سيطرته في الرقة وريف حلب الشرقي، تمهيداً للسيطرة عليها، دون السماح بتشتت مقاتلي التنظيم إلى خلايا نائمة، ومع ما يحف ذلك من مخاطر التترس بالأهالي وتنفيذ إعدامات ميدانية واسعة، يبدو أنه أضحى في حكم الضرورة لتستعيد الثورة شيئاً من الاتصال الجغرافي والتفرغ الميداني لقتال النظام كشرط للمنافسة والقدرة على الصمود في هذه الحرب الطويلة.
من كتاب "زمان الوصل" ضمن قسم "إسلام وجهاد"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية