أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

حمص التي لن تسقط: كيف فاوض النظام على تصفية الساروت؟!

حمص المدمرة

الحديث عن سقوط حمص المحاصرة... بات أشبه بـ (ليلة سقوط غرناطة) في المسلسل التلفزيوني الشهير الذي كتبه محفوظ عبد الرحمن وأنتج في ثمانينيات القرن العشرين.. والذي نقل وقائع سقوط آخر ممالك المسلمين في الأندلس، بخروج بني الأحمر وآخر ملوكهم (أبو عبد الله الصغير) الذي بكى كالنساء ملكاً لم يحافظ عليه كالرجال كما نعتته أمه! 

الكل يتحدث عن حدث السقوط وشكله، موقناً أن لا أمل في صمود حمص المنهكة على مدار أكثر من عام ونصف من الحصار! 

الكل يتحدث عن سقوط حمص، وكأنه القدر الذي لا راد لقضائه... في حالة لم تعرفها الثورة من قبل؛ لا في معارك بابا عمرو، ولا في معارك القصير، ولا في معارك يبرود... رغم أنها انتهت بالسقوط أمام همجية الأرض المحروقة، والفتك الوحشي بالبشر والحجر والشجر بلا أي خطوط حمراء، أو استهجان إنساني دولي! 

لأول مرة نراهن على سقوط حمص، بدل الأمل بالنصر. ولأول مرة نرى المعركة من منظار من لا يرى قيم الحق التي يختزنها ذلك الصمود الطويل، بكل ما يحمله من كبرياء ثوري لم يهن فيه ثوار حمص يوماً.

عذراً... لن أكتب لأنعي حمص القديمة، سواء سقطت قبل نشر المقال أو بعده أو لم تسقط... فحمص بابا عمرو دمرت لكنها لم تتحطم... وحمص شهداء الطحين صعدت إلى السماء ولم تسقط... وحمص الساروت لا زالت في الداخل تحرس الثورة والوطن الذي لم يغادر أرض الجوع والحصار! 

عذراً لا وقت لدي لأنغمس في الرثاء... بل سأردد ما كتبه الأخوhن رحباني بعد سقوط القدس عام 1967: (لن يقفل باب مدينتنا فأنا ذاهبة لأصلي) وسأجمع شتات المعلومات التي وصلتني كي أرسم صورة لما جرى، بدل ترقب ما سيجري... 

فمنذ ما يقارب الشهر خرجت من حمص المحاصرة لجنة سميت ب (لجنة المصالحة)، ووصلت إلى (الوعر) لتتحاور مع وزير المصالحة في نظام الأسد أو من ينوب عنه، وبعد انتظار دام أيامآ، اجتمعت بممثلين عن النظام، وتم الاتفاق على نقاط عديدة... أهمها مغادرة البعض للريف الشمالي، أو الانخراط في المصالحة أو ما يسمى (تسوية الأوضاع)... وقد كان من المفترض أن يصل في اليوم التالي مسؤول أمني ليوقع على ما تم الاتفاق عليه، لكن المسؤول لم يصل... بل أرسلت تعزيزات ودبابات جديدة تمهيدا لتطبيق الاتفاق لاحقاً بأسلوب الإجرام الأسدي التاريخي القائم على الغدر وخيانة العهود! 

لكن علميات التفاوض التي أخذ يلح عليها النظام، مع مقاتلي حمص القديمة منذ مطلع الأسبوع الماضي باتت تجري على أجهزة اللاسلكي، وصارت حالة شبه يومية... فتحول من يسمون في إعلامه، وفي الأحياء الموالية بـ (الإرهابيين)، إلى شركاء الخط الساخن في علميات التفاوض، وفبركة تمثيليات (المصالحة الوطنية) التي تحدث عنها بشار الأسد باعتبارها (نجاح) لنظامه، وزيادة لما أسماه (الوعي الشعبي تجاه الأزمة) في التصريحات التي نقلها تلفزيون النظام خلال ما قيل عن لقائه بخريجي المعهد العالي للعلوم السياسية منذ أيام! 

الأخطر أن الشباب تحدثوا عن مساومة النظام وطلبه من المقاتلين ليس تسليم أسحلتهم، فهو أمر شائع في مساومات كهذه، لكنه طلب منهم أيضاً تصفية أسماء معينة. من بين الأسماء التي كشف عنها لاحقاً: (عبد الباسط الساروت) حارس الكرامة العنيد الذي ألهب بحضوره وغنائه مظاهرات حمص الأولى... لكن حميمية العلاقة مع الساروت سمحت للمقاتلين بكشف الخطة له، في الوقت فوتت عليهم فرصة التنبه للخطر الذي كان يحيق بحياة الكاهن الهولندي الأب (فرانس فاندرلخت)، الذي رفض الخروج من حمص المحاصرة كي يبقى بين اولئك الجوعي الذي آمن بحقهم في الحرية والكرامة. 

طلقة في الرأس أنهت حياة الأب فرانس، في عملية ربما كانت جزءاً من صفقة مع النظام لخروج بعض المقاتلين، أو لمقاتلين كانوا قد هيؤوا أنفسهم بمبررات عدة للقبول بصفقة كهذه، ستريح النظام في حال تمكن من اقتحام المدينة، من حمل عبء دم الأب الهولندي، وإلصاقه بالثوار، وإصدار بيان على وكالة أنباء النظام (سانا) تيتح له استعراض مشاعره المرهفة تجاه الأقليات، أمام عالم استمرأ هذه اللعبة الرخيصة!

وثمة معلومات أخرى، أفاد بها من خضعوا لعملية تحقيق و(تسوية أوضاع) تقول إن النظام أظهر أنه لا يهتم إن كان من يسلم نفسه قد قتل عشرات من الجنود، أو فجّر دبابة للجيش، أو أن أياديه (ملطخة بالدماء) كما يقول التعبير الدارج لدى هذا النظام المجرم الغارق حتى أذنيه بدماء السوريين، فأكثر ما يهتم له حالياً، أن لا يكون من سيسوّى وضعه، ناشطاً إعلامياً أو سلمياً، أو له علاقة بمعارضة الخارج، أو عمل بالإغاثة. فهؤلاء لا يفرج عنهم النظام إذا ثبت عليهم هذا الأمر، وإن اضطر أن يفعل لتطمين الآخرين كي يسلموا أنفسهم، فإنه سرعان ما يعود لاعتقاله أو تصفيته بأي شكل من الأشكال! 

هذه الشهادة نقلها لي أحد المفرج عنهم، وهي تعكس ربما رؤية النظام لمعركته الطويلة الأمد... فالإعلامي يتحول إلى شاهد عيان، وإلى كتلة من المعلومات، وإلى حامل رسالة، بينما المقاتل... قد ينتهي إلى التشرد أو الانكفاء إذا فقد أرض المعركة التي خرج منها... وربما يجد مصيراً مماثلاً في معركة أخرى تنتهي باستشهاده! 

أنقل هذه المعلومات، التي ربما تمثل هدفاً مرحلياً للنظام ليس إلا... أي التخلص من نشطاء الإعلام والإغاثة أولاً، ثم التفرغ للمقاتلين في ساحات أخرى.. فقد أثبتت أحداث الثورة، أن نظام الغدر والخيانة الذي رضع قيم النذالة من مؤسسه المقبور حافظ الأسد، لا يؤتمن على حياة أطفال ونساء عزل، وليس مقاتلين أو نشطاء استعصوا عليه في الحصار كل هذه المدة. ولا ننسى أنه لم يوفر المدنيين من غدره، حتى أمام قوافل الأمم المتحدة، في صفقة إيصال المعونات الغذائية لحمص المحاصرة، وإخراج بعض المرضى في شباط/ فبراير من العام الجاري.

إذاً تبدو حمص على وشك السقوط، ضمن سلسلة من محاولات الاختراق والتصفية والمساومات والغدر... تبدو حمص على وشك السقوط، في زمن لا يبدو فيه النظام في أقوى حالاته بالتأكيد، لكنه في أكثر أوقاته حرجاً للبحث عن أهداف مرحلية، وانتصارات يرفع فيها معنويات شبيحته المنهارة، أو يؤسس لخارطته الطائفية، القائمة على نهش قلب سوريا الأجمل، والأكثر رحابة وتسامحاً، الأكثر التصاقاً بحلم الثورة منذ أشعلته درعا. 
لكن سقوط حمص إن كان وشيكاً في ظل جملة التجاذبات والإنهاكات أو حتى الاختراقات... فلن يكون نقطة النهاية في آخر سطور قصة عاصمة الثورة. 

سقوط حمص الرمزي، لن يحمل أكثر من معناه المؤقت، ومن أوهام المحتل في التمدد على رقعة الأحرار، لبناء دولة الذل والعبودية الجديدة. 

يقول (عمر المختار) لغراسياني وهو مقيد بالسلاسل على بعد مسافة من المشنقة التي أعدها المحتلون الطليان في الفيلم السينمائي الشهير الذي روى سيرته الذاتية: 

" لا تظن أنها النهاية، سيكون عليك أن تحارب الجيل القادم والأجيال التي تلي... أما أنا فستكون حياتي أطول من حياة شانقي! " 

أجل... سيكون سقوط حمص مؤقتاً.. وستشرق شمسها الضاحكة من جديد... أما سقوط النظام فسيكون نهاية عصر أسود مظلم، غاب ليله الطويل إلى الأبد... حاملاً معه حلم (الأبد) الأسدي والطائفي إلى أحط بقعة في مزابل تاريخه القمعي الدامي، الذي لم يعرف السوريون فيه طعم الكرامة والحرية منذ أطبق حافظ الأسد بحركته التخريبية على حكم سوريا، مؤسساً أسوأ حكم استبداد عرفته البلاد في تاريخها الطويل!

من كتاب "زمان الوصل"
(154)    هل أعجبتك المقالة (136)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي