أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

«عقبة».. قصّة وطن ضائع ... حذيفة فتحي


"ما عاد بدّي ارجع عالبلد.."، بهذه الكلمات يختصر «عقبة» حال الكثير من الشبّان الذين غادروا وطنهم لظروف متنوّعة، على رأسها الأوضاع الأمنية والاقتصادية المُزرية التي وصلت إليها مختلف المناطق، وذلك بعد مرور ثلاثة أعوام على انطلاقة الثورة السورية. 
«عقبة»، الذي أتمّ عامه السابع والعشرون، لم يكن يتصوّر أن تضيع أحلامه في مواصلة دراسته الجامعيّة والحصول على إجازة في الحقوق من جامعة دمشق. لم يكن يتصوّر أيضاً، أن تندلع شرارة الثورة وهو يؤدّي الأيّام الأخيرة من (خدمة العَلَم) الإلزامية التي التحق بها منتصف العام 2009، بعد أن كان قد أوقف دراسته الجامعية لظروف خارجة عن إرادته. صديقنا ذو الحظّ العاثر، وبعد اتّساع حركة الاحتجاجات، دخل في مرحلة الاحتفاظ بالجيش، ليكون من أوائل العسكر الذين تمّ ارسالهم إلى مدينة درعا. لم يشفع لـ «عقبة» جسده الهزيل في تجنيبه الالتحاق بقطَع عسكرية تُعرف بقساوة تدريبها، فوقع الاختيار عليه منذ البداية ليكون أحد جنود "القوّات الخاصّة"، ووزنه حينها كان لا يتجاوز الـ 60 كيلوغرام!.
 ذهب طالب الحقوق مع زملائه من "القوّات الخاصّة" للقضاء على "الإرهابيين" في درعا، كما أخبرهم أحد الضبّاط، وكان شاهداً على حصار المدنيين وتجويعهم، إلى جانب قطع الكهرباء والماء والاتصالات عن سكّانها. لم يُدرك «عقبة» آنذاك حقائق الأمور وأبعادها، لكن ما رآه زرع الشكّ في نفسه وناقض الوصف الصّادر عن الضبّاط، الذين اقتصرت مهمّتهم على غسل دماغ عناصرهم وتلقينهم المعلومات الكاذبة، إضافة إلى تكرار إشاعة الروح الوطنية بينهم، والواجب في الدفاع عن الوطن والقائد ضدّ المُخرّبين والإرهابيين المزعومين. تجنّب ابن المنطقة الشرقية مشاركة ما يجول في خاطره مع أحد من القيادات المسؤولة عنه، أو حتّى مع زملائه من العناصر، ولم يحصل على ما كان يريد سماعه عند الاتصال بأهله، الذين أخبروه مراراً باستقرار الوضع في مدينته، في حين كانت المظاهرات تسير في الحارة التي يسكن بها. توضّحت لصديقنا بمرور الأيام صورة ما كان يمرّ به الوطن الذي غادره لاحقاً، فنُقل مع زملائه هذه المرّة إلى الشمال السوري للقضاء على الإرهابيين أيضاً، ولم تُثمر محاولاته اليائسة في الحصول على إجازة لزيارة أهله بعد مرور نحو عام على الاحتفاظ به. أصبح «عقبة» الآن يجرؤ على التحدّث إلى رفاقه بشكل علني، بعد رحلة الشتاء والصيف وكل ما رافقها من أحداث يتذكّر تفاصيلها بدقّة، فهو يعيش حالة نفسيّة يُرثى لها. 
نظرة خاطفة إلى التلال المحيطة المغطّاة بأشجار الزيتون، كفيلة بجعلك تفكّر بالهروب من الجحيم، الأمر الذي كان سيقدم على فعله صديقنا في إحدى نوبات الحرس الليلية التي يرأسها، لكن سرعان ما تلاشت أحلامه مع بزوغ ضوء الصباح، حين تذكّر مصير أحد رفاقه الهاربين حديثاً، الذي لم تمضي سوى ساعات قليلة مذ بدأ بالرّكض دون توقّف، حتّى وقع بين أيدي حاجز آخر للجيش، لتتمّ إعادته إلى المكان الذي قرّر أن يبتدأ منه رحلة الألم، فاجتمع من كانوا بالأمس القريب رفاق السلاح و"حُماة الوطن"، ليشاهدوا رُغماً عنهم حفلة التعذيب والتنكيل بحقّ العسكري "الخائن الفار". 
صباح أحد الأيام المشمسة منتصف العام 2012، عبوة ناسفة على جانب الطريق السريع غيّرت مسار حياة «عقبة» المغلوب على أمره. استفاق صديقنا وصوت الانفجار لا يزال في أذنيه، وأخذ يتحسّس وجهه المضمّد ويده الأخرى التي عجز عن تحريكها. سأل أحد الممرّضين في المشفى عن أحوال من كانوا معه في سيّارة الزيل العتيقة، أجابه الممرّض -غير مكترث- بمقتل أربعة من رفاقه وإصابة آخر. عاد «عقبة» بعد ثلاثة أيّام من إصابته إلى النقطة العسكرية التي يخدم بها، سالكاً الطريق ذاته الذي أدّى إلى تشويه جسده، ليحصل أخيراً على إجازة يستكمل بها العلاج عند أهله. تفاجأت والدة صديقنا بابنها الذي غيّرت الإصابة معالم وجهه، ولم تمضي سوى أيام حتّى اشتعلت المواجهات المسلّحة العنيفة بين قوات النظام والمعارضة في دير الزور، فنزح «عقبة» مع أهله إلى مدينة الرقّة التي بقي متخفّياً فيها عن أعين حواجز النظام، إلى حين سيطرت قوات المعارضة عليها أوائل العام 2013. انتقلت هذه السيطرة إلى جماعات متشدّدة فرضت مؤخّراً قوانين يصعُب على الشّاب السوري التأقلم معها، فرحل «عقبة» هذه المرّة إلى الجنوب التركي دون أن يلتفت وراءه، لتصبح سوريا بالنسبة له مُجرّد ذكريات من الماضي، مُجرّد "وطن ضائع".

(133)    هل أعجبتك المقالة (132)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي