كان ذلك المساء صقيعيا جافا من أماسي أواخر شهر كانون الأول, الأرض المقفرة الممتدة من حسياء الى صدد بدت كتربة متجمدة صفراء, الحجارة البيضوية الصغيرة فرشت كل مكان, بحيث لا يمكن تجنبها, تُوقع ذلك الألم الرتيب بالأقدام المنهكة, كانت السماء واسعة أكثر من أي وقت مضى, مكتظة بنجوم عميقة.
نادى أحد الشبّان السائرين في القافلة البشرية الطويلة موجها كلامه لشخص ما في مقدمة الركب: ( فرانس ايمت بدنا نستريح؟).
رجل طويل القامة يمشي في مقدمة الركب يلوح بيده في الهواء, دون أن يلتفت للوراء و يقول: ( عند أول شجرة منصادفها ).
في هذا القفر الذي لا يلوح فيه أي أمل بإيجاد شجرة, تصبح إجابة الأب فرانس نكتة تثير الهرج و المرج و الضحك, و تنتقل من مجموعة لأُخرى لتصل إلى نهاية الركب الطويل.
هل ينتمي ذلك الذي كان إلى عالم الذكريات و لم يعد ممكنا ؟ هل هو العالم الذي مضى و رحل و لن نعود إليه و لن يعود إلينا أبدا؟
أب فرانس.. كنتُ أعتقد بأني سوف أعود إلى حمص و سوف تكون أنت هناك. خيّل لي بأني سوف أمشي ذلك الزقاق الضيق, و سوف أصل إلى المكان القديم ذو الحجارة السوداء, و أدخل ساحة دير الآباء اليسوعيين, و أمر بالمدخل الضيق, و أرتقي الدرجات الملتفة لأقرع الجرس, ربما يكون الباب مفتوحا, و ربما أمُرُّ على الغرف و لن أجد أحدا, وأنزل الدرجات ثانية و أمشي الممر إلى الساحة الداخلية للدير, و انعطف يسارا, و أقف عند آخر الغرف بهذا الجانب, حيث المطبخ, ستكون هناك حنة, تلك السيدة التي عاشت سنين معاناة مع المرض و الألم و الشقاء, و مع ذلك سوف تستقبلني باسمة فرحة و هي تتابع عملها, ستدعوني قائلة: ( اعملك قهوي ), وسوف تُريني شعار الآشوريين, وتحدثني عن ابنها, و أتعلم منها كلمة آشورية جديدة, و تحدثني عن عوالم بين الفرات و الخابور.
كنتُ أعتقد بأني سوف أجلس من جديد تحت تلك الأشجار الصامتة, وسوف أتعلم مجددا أنّ الصمت ناطق أكثر من كل الأشياء, و أغمض عيناي فأرى العالم بأذناي في تلك اللحظات التي تسبق الغروب, حين تتجمع العصافير و تزقزق و هي تتجادل و تتقاسم أماكن النوم على الأغصان, و صوت رفيف يمامة تهبط بقربي, و يمام يهدل على حواف بارزة في الجدران., كنت أتهرب من التفكير بأنّ تلك الطرق التي سأمشيها ستكون مهدمة خربة, أحاول فقط أن أتخيل الأماكن كما أريد لها أن تكون.
على المكتب الصغير في غرفتك, طبقات من الكتب و رسائل و أوراق و صور و أشياء كثيرة, و أنت تبحث عن شيء ما و تقول لي: (هوني في فوضى كتير), أهز رأسي و أجيبك: (فوضى بعقل), حتى تلك الطراحة الطويلة الممتدة فوق بساط رقيق على الأرض, المفضلة عندك, لن تنجو من فوضاك و من أوراقك المتناثرة, و جدران مليئة بذكريات عن بلدان شتى, فيها أفارقة و مصريين و أوربيين و آسيويين, غرفتك هي العالم بأسره, أكاد أسمعها تقول لي: ( دون أن ننظر من النافذة يمكننا أن نرى طريق السماء) .
لماذا رحلتَ... أما كان بإمكانك البقاء؟ لماذا كثيرٌ ممن نحبهم مضوا متعاقبين, هل تساررتم فيما بينكم و اتفقتم معا على الإلتقاء هناك في المكان الآخر و تركنا وحيدين. حمص أيضا تركت وحيدة, تحاول أن تحيا بمفردها دون أن تتكىء على أحد.
أب فرانس أخبرني....من عساه سيُعلّم الألوف فن اليوغا, من سيحدث الألوف عبر أجيال عن الإصغاء, السوريون جميعا بحاجة اليوم للإصغاء إلى أنفسهم, و الأرض و ألآف القادمين من كل القرى, أطفال و كبار و مسنين, من كل الألوان, من كل الطوائف و الأديان, اعتادوا أن يأتوك, الألوف سيأتون, بعضهم متكئ على بعض, ماشون و راكبون سوف يأتون, ذوي احتياجات شتى, كلنا ذوي احتياجات لكل شىء, كلنا فقراء من كل شيء في هذه الحياة, الكل سيأتون حيث النور, حيث فيضُ حُبّك الغامر, كي تعلمنا كيف نصير أغنياء بأنفسنا, أغنياء بأرواحنا, تعلمنا بأننا قادرون أن نحيا بفرح إن ادركنا أنفسنا.
أحقا ما قيل؟ لا يمكن أن يكون ما قالوه ..... سيأتون و لن يجدوك؟
ألن أراك مجددا في شوارع حمص على دراجتك الهوائية, ألن أرى تلك الفولكسفاكن البرتقالية القديمة, أما زلت تجلس بطولك الفارع خلف مقودها و تقول: (هاي سيارة ممتازة و متينة), و أقول لك (هاي احلى سيارة بالعالم كلو) .
ألم تقل لي يوما بأنّ أطفال الشركس مهذبين و منضبطين و مطيعين, و قلت لك: و أنا أيضا طفلة شركسيّة مهذبة و منضبطة و مطيعة, فتشير بيدك الكبيرة التي تجعدت سلاميات أصابعها, و تنظر إليّ بعينيك الزرقاوتين الشفافتين الفرحتين الماكرتين, من خلف زجاج نظارتك و تقول لي:( إنتي شركسية حركوشه), و سوف لن تناديني بعد ذلك إلا بهذا اللقب, و أنا أحببته كثيرا لأنه منك, ألن اسمعه منك ثانية.
هل كان كل ذلك حلما لكائن ضبابي ذكي يطوف في مكان ما, و نحن جميعا مخيلته و أفكاره, هل كنا حقا أم كانت احلامنا؟
ألم تكن تصافح الجميع و أنت تقول :(السلام عليكم و رحمة الله و بركاته), و حين تمضي تقول سلام, باي و إلى الأمام؟ بلى. كنت تقول ذلك, و كل الذين عرفوك تعلموها, حمص كلها تعلمت منك أن تقول (وإلى الأمام).
جادلتك كثيرا حول محاضرتك, الموت في الحياة و الحياة في الموت, و تحدثنا بذات الأشياء التي تحدثنا بها قبل عقد من السنين, حين كانت والدتك تحتضر في هولندة, أخبرتني بأنها بين الحياة و الموت و قلت لي: إن كنا نتكىء عليهم ولا نستطيع أن نحيا بدونهم لأننا بحاجة لهم فهذا ليس حبا, لو كنا نحبّهم حقا سنتقبّل موتهم, سنتابع حياتنا و نعمل و نفرح ونبتهج في هذه الحياة, وجِدنا كي نعيش.
نحن أقوام ميتون في الحياة و راضون بموتنا, من نذرك كي توقظنا و تنقذنا و تعلمنا أن نحيا ونفرح و نعيش.
في مطبخ حنة, البعض جلسوا و البعض كانوا واقفين, الراهبة الفرنسية الملائكية القسمات, كانت تتعجب من كل هذا الكم من النكات الحمصية, يحاول البعض الشرح لها, لم تكن تستطيع التقاط تتابعها السريع, و حين هدأ حميم النكات و الضحك, قالت إحدى الفتيات بطريقة ساخرة : (بس لو نعرف مين عم يركب علينا هالنكت), أجبتَ بعفويّة طفولية بلهجتك الآسرة, التي أشعر كأنها تضم كل الحروف فرحا و إبتهاجا: ( نحنه منركب النكت على حالنا ), وأهجت الضحك الذي هدأ.
اخرجتَ شيئا من تلك الحقيبة الجلدية الممتلئة التي تُعلقها على كتفك و قلت لي: ( هاي مشان الإقامة, أنا سوري و لازم جدد إقامتي على طول).
في المسير, بعد عشرات الكيلومترات, تفرغ كُلّ الجُعب من الأغاني, من النكات, من الأحاديث, حين يبلغ التعب و الإرهاق مداه, يبدأ كلٌّ بالغوص بمفرده في عالمه الداخلي, على إيقاع الطريق البطىء و صوت الريح, تكتشف أيها الكائن الإنساني كم أنت صغير و ضعيف و ضئيل, يبدو الجبل هائلا و يبدو الركب الطويل من البشر الممتدين على سفح الجبل أضأل من غبار تتناقله الرياح, و تمشي و تمشي, خطوة بخطوة, مرتبطا بقدرات جسدك الإنساني المحدودة, لا يمكنك طيُّ المسافات و لا اختراقها, تمشيها خطوة متعثرة و خطوة ثابتة, لايمكنك أن تصل و لا يمكنك المرور بهذه الحياة إلا بهذه الطريقة, و حين تشعرأنّ المسافات تمضي فيك بقدر ما تمضي بها, كما هي الحياة, حين لا يتبقى فيك إلا تلك الصور التي مررت بها و أصوات الطبيعة التي صارت جزءا من روحك, و صارت منك كل العقبات التي وقفت أمامك, الطرق السهلة و الطرق الصعبة, الريح التي تدفعك بكل الإتجاهات, المسالك الوعرة و تلك اليسيرة , كل شيء يصير فيك, الطريق و الحياة بذاتها, استطيع أن أفهم لماذا كنت تقول الطريق ليس أقل أهمية من الهدف.
ليس جميل أن ندخل الأماكن فنرمي قذارتنا وأوساخنا فيها و نمضي, علينا أن ننظف قذارتنا و أوساخنا بأيدينا, أن نستخرجها من ذواتنا و من دواخلنا, بدل أن نرميها في أرواح و نفوس الآخرين, كي نستحق إنسانيتنا.
كم حاولت تعليمنا, نحن لم نفهم بعدُ معنى النظافة التي حدثتنا عنها؟ و لم نفهم بعدُ لماذا علينا أن نعمل ذلك بأيدينا؟
حين نصل إلى أعلى الجبل نكتشف بأنّ الوادي هائل و فسيح و قادر على ابتلاعنا جميعا, كل شيء في هذا العالم كبير و أنت أيها المخلوق البشري تنتمي للأشياء الأصغر فيه, تبدو قريبا إلى الأرض كما لم تعتقد يوما أنّك قريب, و كل شي فيك ينتمي إلى التراب و الحجارة و الصخور, لكن شيئا فيك يحملق في السماء الهائلة الممتدة بمليارات النجوم المحملة فيك, في روحك, فتُشعرك بأنّ شيئا فيك أيها الضئيل العاجز الفاني ينتمي لأوسع ما في هذا الكون, و تغوص أكثر و أكثر و تستسلم للغرق في ذاتك, حين لا تعود خائفا من نفسك و من الغرق فيها, و تبدأ باكتشاف ذلك الذي يسكن جسدك الضئيل و ينتمي للمنتشر في كل الوجود, و سوف تغيب في ذاتك فلا تقاوم و لا تجادل, وسوف تحكي لك و تسمعها, و تكتشف عوالم واسعة غريبة, لم تكن قبل تعرفها, وستدرك لماذا تنتمي للوجود, و تدرك أنّ الإصغاء الذي يتحدث عنه ليس وهما.
أب فرانس , الشرق و الغرب التقوا على قتلك كما لم يلتقيا يوما, نحن الشرقيون بأيدينا قتلناك, قتلناك باتكاليتنا, قتلناك بأنانيتنا, لم نفهم بعد منك لماذا توزع الشمس نورها على الطيبين كما على المجرمين, لم نفهم لماذا علينا أن نخجل و نشعر بالعار من حيث نفخر, نحن قوم قتلة, نفخر بالقتل, نفخر بالقوة, نفخر بالعظمة نفخر بالجبروت, و لا نخجل, ما زلنا بعيدين عن إنسانيتنا, و سنبقى باتكاليتنا و أنانيتنا بعيدين, نحن منحطون متخلفون مارقون منافقون, مهما ادعينا الحضارة و تدثرنا بمظاهرها و اصداراتها, نحن أنذال و كاذبون و كفرة, مهما تلفحنا و اختبئنا بأدياننا, نحن طماعون جشعون و مهما اختلفت أدياننا و مذاهبنا و مشاربنا و أفكارنا و عقائدنا نحن نعبد جميعا ربا واحدا و معبودنا الأوحد هو المال, و كلنا من أجله متفقون متضامنون متواطئون, نحن وقحون و فاجرون مهما ادعينا الحياء و تغنينا بما ادعينا من حيائنا, نحن باطنيون مخادعون, نحن قتلناك لأننا ما زلنا نرمي أوساخنا و قذارتنا في كل الأماكن, نحن كائنات يصعب تعليمها. كثيرة هي الأوساخ التي رمينا في أنفسنا, فصرنا أقرب للوحوش منا للآدميين.
و أنت قلت لي: بأننا إنسانيون طيبون, نقدم للغرباء أفضل ما لدينا, قلت لي بأننا كرماء و رحيمون و متسامحون, و أننا نحب الحياة و لا نيأس منها, و نستطيع العيش بأصعب الظروف وبما قُدر لنا.
هل كنت ترى فينا ما لانراه بأنفسنا؟
نحن جبناء و منافقون و كاذبون لأننا ضعفاء و خائفون, نحن وقحون فاجرون و ندّعي الحياء لأننا مرهقون ومضطهدون, نحن طماعون لأننا فقراء من كل شيء منذ نعومة أظافرنا و جائعون, نحن قتلة و متوحشون لأننا مُغيبّون و مدفونون فما عسانا إن خرجنا اليوم من قبورنا غير هياكل عظميّة نكون.
ملايين الجياع و المطاردين لم يجعلهم الجوع جشعين و طمّاعين, أما نحن فمعقدون.
أب فرانس غفوت البارحة لدقائق, كنت أفكر فيك, هُيّأ لي بأني كنتُ في حمص القديمة, وأني أقف وسط الدمار, و كنتَ هناك و أشرتَ لي, وضعت سبابتك على شفاهك, طلبتَ مني أن أُصغي إلى صوت ما ينبعث من الأحجار القديمة المكسرة, ينبعث من الجوامع المهدمة, ينبعث من الكنائس الجريحة الباكية, من تراب حمص من جدرانها, من حيث برك الدماء التي تجمعت يوما ما, ينبعث حيث الطفل الذي بقي وحيدا و مات وحيدا مشردا على قارعة الطريق, ينبعث من حيث مرت أقدام المشردين و البائسين, ينبعث و يهطل مثل ندف الثلج من السماء, كل الذّين أصغوا في حمص و في كل سوريا سمعوه, كان يقول: ( أنا القيامة و الحياة من آمن بي و إن مات فسيحيا ).
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية