أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

الانتفاضة التي فشلت في التحول إلى ثورة... سمير سعيفان*

فشلت الانتفاضة السورية في أن تتحول إلى ثورة تهدف لإحداث تغيير إيجابي عميق في الواقع وتفتح آفاق جديدة للشعب. فالثورة عمل منظم تطلقة قوة منظمة لها هيكل وقيادة مركزية وآليات عمل واحدة ونظام مركزي يتحرك الجميع بحسب تعليماته، بينما الانتفاضة عمل عفوي ينطلق نتيجة تراكم الغضب، وإن امتلك الغاية بشكل عام وغامض فهو يفتقد للاستراتيجية والتكتيك التي توجه خطواته، فلا يضل الطريق في زحام الأحداث والأطراف المتدخلة. ولكن تتحول الانتفاضة إلى ثورة إن استطاعت أن تفرز قياداتها من خلال مسيرتها وصيرورتها.

انطلاقة آذار 2011 في سوريا كانت انتفاضة في مواصفاتها، ولكنها فشلت في أن تتحول إلى ثورة رغم أن جرأة الشعب السوري حين خروجه في آذار 2011 أثارت دهشة العالم. 

ولهذا حكاية طويلة، مقتل الانتفاضة، رغم قدراتها الشعبية الهائلة، يكمن في تشرذمها وتشتتها وعجزها عن أن تمتلك العقل الذي يسيرها، فبقيت قوة مفتقدة للبصيرة تبذل الكثير من الجهود وتدفع الكثير من التضحيات حتى تحقق القليل من النتائج.

بقايا الأحزاب السياسية القديمة لم تكن قادرة على قيادة الانتفاضة لأنها افتقدت لأي طموح بعد أن عطل النظام مفعولها سواء دخلت الجبهة الوطنية التقدمية التي يملكها حزب البعث، أم بقيت خارج تلك الجبهة الفارغة من أي مضمون ومن أي دور.

تجمع بعض القوى القديمة مثل الإخوان وحزب رياض الترك والقوى المنضوية في إعلان دمشق والتي شكلت المجلس الوطني نقلت لهذا المجلس أمراضها في الاستئثار والإقصاء والعمل العشوائي والأوهام أن النظام سيسقط قريباً، وستقع ثمرته بين أيديها مدعومة من تركيا. 

ولم تطور المعارضة بقيادة المجلس الوطني استراتيجتها ولا تكتيكها، بل أخذت تتصرف بفوضى وعفوية لا مثيل لها بدأت بأوهام التدخل الأجنبي واستجدائه. وليست أحوال الائتلاف بأفضل حالا بكثير، فقد ولد ولادة مشوهة، فنشأ كنوع من ضم مجموعات من القوى الحديثة التي نشأت مع نمو الانتفاضة أو من يزعمون تمثيلها إلى جسم المجلس الوطني لتكوين الائتلاف، وقد اتسمت ممارسته فوراً بالاستئثار وتأثير قطر عليه بشكل مبالغ فيه، ثم تحول مع توسعته إلى ساحة صراع تضع أولويات المتصارعين الذاتية والدول التي تدعمهم قبل مصالح سوريا وشعبها الذي خرج مطالباً بالحرية والكرامة. 

أما هيئة التنسيق فلم يكن لها تأثير يذكر بحكم كونها تقع تحت مطرقة النظام مباشرة فضاعت بين الرغبة في التغيير وبين الخوف من عصا النظام. ولا نريد التحدث عن المجلس الوطني الكردي الذي ميز نفسه بأهدافه الخاصة المنفصلة عن أهداف بقية الشعب السوري وغير المستعدة لاتخاذ موقف راديكالي مفضلاً المعارضة الناعمة بانتظار رؤية المنتصر.

بعد أن نهضت الانتفاضة السورية في سنتها الأولى بقوة ونشاط وجرأة وامتدت مظاهراتها السلمية باتساع رقعة الوطن، وشارك فيها قرابة ثلاثة ملايين سوري في مختلف المدن والبلدات، رغم الحل الأمني الذي حضر لها مسبقاً وطبق منذ لحظاتها الأولى، مما نال إعجاب العالم واندهاشه من جرأة هذا الشعب ومن عنف النظام المفرط، ولكنها ومنذ آواخر 2011 اتخذت منحىً عسكرياً كرد فعل على الحل الأمني لحماية المظاهرات السلمية التي اضطرت للجوء إلى التظاهر ضمن الحارات والساحات المغلقة بسبب تصاعد عنف النظام، ثم تحولت لتكون العسكرة من ضرورة لحماية المظاهرات السلمية إلى وسيلة بذاتها لإسقاط النظام ما لبثت أن انفصلت عن السياسة، ثم انساقت الانتفاضة بكليتها وراء تلك الضرورة وتركتها تتحكم بها، واستسلمت لها لتسوقها غرباً وشرقاً مسلوبة الإرداة دون أن يكون لها قرار في ذلك "سطوة الضرورة". وكان دور قياداتها غائباً ان لم يكن سلبياً. فمع تصاعد الحل الأمني للنظام واتساع حدوده نما الجانب العسكري في الانتفاضة وعلا ضجيجه بحيث بات ويغطي على صوت المظاهرات السلمية المنادية بالشعب السوري الواحد، الذي ما لبث أن خبا الى حد أنه غاب.

الانتفاضة لم تتحول إلى ثورة لأن المجموعات التي حملت السلاح كرد فعل على الحل الأمني المتصاعد قد بقيت مشتتة متشرذمة ولم تنفع معها الدعوات والمحاولات الكثيرة لتوحيدها لأن الجهات الداعمة لها متنافسة وسياساتها تجاه الأزمة السورية غير موحدة، وقد تحولت الاندفاعات المخلصة للمقاتلين تحولت لدى البعض منهم، بسبب غياب القيادة والرقابة، الى مشاريع انانية ذاتية متحولين الى أمراء حرب آثروا التنعم بما كسبوه من مال وسلطة، وتحولوا إلى تجار أسلحة وذخيرة وآثار، بينما نظمت مجموعات من حملة السلاح نفسها كعصابات سرقة مقدمة أسوأ مثال عن سلوك الثوريين، فتم نهب المحلات والمصانع الخاصة والحكومية. وفي مثل هذا الوضع لم تتشكل القوة المركزية للمجموعات المسلحة التي كانت ستردع أمراء الحروب عن أفعالهم وتقمع اللصوص الذين لبسوا لبوس الثورة.

حديث البعض عما فعله شبيحة النظام من سرقة ونهب وإقامة أسواق بالمنهوبات، أو القتل والهدم والمجازر الخ، أو أن أجهزة الأمن هي من نظم عدداً من هذه المجموعات، لا تصلح ابدا لتبرير هذه الأفعال، فالثورة يجب أن تقدم نموذجاً جذاباً مقنعاً لا أن تنجر إلى ممارسات سيئة فلا تتميز عن الشبيحة ولا تميز نفسها عن سلوك النظام.

غياب القيادة الموحدة والجسم السياسي الواحد أو المتحالف وغياب الجيش الحر الوطني المعارض الموحد هو ما سمح لكافة الظواهر السلبية بالنمو. فقد غابت إرادة الانتفاضة السورية وتفتتت في إرادات كثيرة يتحكم بها المانحون للدعم المادي الإغاثي والعسكري، وهؤلاء الداعمون مدفوعون بخليط من الدوافع بين خوفهم من المشروع الإيراني الذي يهددهم ويسعى للتدخل في شؤونهم، أو مدفوعين بأفكار مذهبية سلفية متزمتة أو أن لهم اجنداتهم الخاصة ويجدون في الاسلام السياسي وحتى في القاعدة ادوات لتنفيذها، و كانت بعض الجهات المانحة تطالب من يمنحوه باتخاذ لبوسٍ ديني بل ومتعصبٍ في أحيان كثيرة، مما دفع المجموعات المقاتلة المعتدلة والتي قامت من أجل التغيير الحقيقي نحو الحرية والكرامة دفعها لأن تلبس لبوساً دينياً كي تحصل على الدعم. وكان الدعم أكثر سخاءً لتلك المجموعات التي تظهر المزيد من التزمت الديني وترفع شعارات مذهبية تشجيع على الحرب الأهلية. أو ترفع شعار دولة الخلافة وشعار الدولة الإسلامية الذي يزرع الخوف في قلوب غالبية الشعب السوري، ليس ما يسمى بالأقليات فقط، بل وفي قلوب الجزء الأكبر من السنة، لمعرفتهم بأنه شعار سياسي سيحضر لهم نظاماً قروسطياً متستراً بالدين.

النظام أدرك جيداً أهمية اعاقة خلق قيادة موحدة للانتفاضة، فعمل على منع مجموعات المعارضة المتعددة من أن تتلاقى وتتجمع وتنظم نفسها في هيكلية واحدة مندمجة تعمل كجسم واحد، وعمل كي تبقى بالتالي مشرذمة ومشتته، وقد استعمل القمع الشديد لتحقيق ذلك. مع توجه النظام لتصفية الموجة الأولى والثانية من قيادات التحركات السلمية وتحت ضغط الحل الأمني المتزايد قتلا واعتقالا برزت قيادات أكثر ميلاً للعمل العسكري وهي بطبيعتها أقرب للأوساط الشعبية وأقل تأهيلاً علمياً وأقل خبرة سياسية.

لم تتحول الانتفاضة إلى ثورة لأن النظام نجح في أن يجرها إلى ساحته إلى حد بعيد، إلى أن يتخذ جزء كبير من مجموعاتها المقاتلة طابعاً دينياً داعية لإقامة دولة الخلافة، متحولة بذلك عن دولة الحرية والكرامة الذي خرج الشعب من أجلها مما ذرع المزيد من الخوف في قلوب قطاعات واسعة من مختلف فئات السوريين بمن فيهم القسم الأكبر ممن شاركوا في الانتفاضة، بل ومن أطلقوها. كما أن غياب وحدة الانتفاضة قد فتح الباب للمجموعات التكفيرية بمشاريعها الغريبة عن مشاريع شعب سوريا، إذ لم توجد القوة الواعية القادرة على منعها. إن لصوص الثورة هؤلاء جاؤوا ليسرقوا انتفاضة الشعب ويأخذوها إلى أماكن أخرى بعيدة عن الأماكن التي يرغب السوريون في ذهاب بلدهم إليها، إلى دولة الحرية والكرامة الإنسانية، وليس إلى دولة مستبدة مستغلة اسم الدين لتكون أسوأ من النظام القائم.

التشرذم والتفتت وافتقاد والوحدة التي تبعث الشعور بالقوة، خلق ميلاً لتصديق الأكاذيب والأوهام وتعليق الآمال على وعود سياسية غربية غامضة بل كاذبة، وهي الوعود التي شجعت السوريين على المضي في الانتفاضة ضد نظام الأسد. وعلقت آمالها على تدخل عسكري غربي لم ولن يأتي، وقد غذى التدخل العسكري في ليبيا أوهام التدخل العسكري في بين فئات واسعة من المعارضة، بينما قرأ النظام جيداً أنه لا تدخل عسكري سيحصل وأن اسرائيل لا تريد إسقاط النظام، وهذا ما صرح به الأسد لمجموعة مبادرة محمد سلمان عندما اجتمع بهم لمدة أربع ساعات في تشرين الأول 2011.

غياب التنظيمات السياسية القادرة وغياب القيادات المدينية فتح الباب لبروز دور العشائر والمذاهب والنزعات القومية وإبراز دور رجال الدين.

غياب القيادة وغياب رؤية القيادة وغموض المستقبل وغموض البديل جعل الانتفاضة عاجزة عن الوصول إلى الفئات المدنينة في دمشق وحلب وحمص وحماه واللاذقية والتي رأت أن الصراع هو بين ريف يحكم وريف آخر يريد أن يحل مكانه. فبقيت هذا الفئات في معظمها بعيدة عنها لأنها لم تكن واثقة من نصرها ولم تريد ان تغامر بأخذ موقف قد يحملها خسارات كبيرة في حال هزيمة الانتفاضة. هذا أدى إلى ما يشبه الفرز، فقد تركزت الانتفاضة في الأوساط الأكثر تقليدية وفقراً، بعد أن نأت أحياء الميسورين عن المشاركة في الانتفاضة أيضاً بسبب عدم امتلاكها الجرأة الكافية لمواجهة الحل الأمني وتحمل تبعاته ومن هنا نرى أن الانتفاضة قد دخلت المدينتان الرئيسيتان في سورية، دمشق وحلب من الريف المجاور لهما من جهة وتركزت في الأحياء الفقيرة والأكثر تقليدية في مختلف المدن والمناطق.

لم تفلح الانتفاضة لأن أعلامها كان غائباً من جهة بينما سيطرت صورة سلبية على إعلام المحطات المؤيدة للانتفاضة وخاصة الأكثر تأثيراً من بينها مثل الجزيرة والعربية التي طغت على أخبارها وبرامجها صور المجموعات المقاتلة بلحاها الكبيرة وراياتها السوداء وشعاراتها الدينية وخطابها المذهبي، بينما غابت أخبار مجموعات الحراك المدني السلمي وغابت البرامج التي تحلل وتخاطب العقل منتجة صورة غير جذابة للانتفاضة السورية. فبدا الصراع من خلالها وكأنه في الأصل صراع مذهبي بين سنة و"نصيرية" وشيعة، ما أبعد فئات واسعة من السوريين عن الانضمام اليها أو تأييدها وجعل الخوف من البديل ماثلاً يلعب دوراً سلبيا ليس لصالح الانتفاضة.

نتيجة لكل هذا لم تستطع الانتفاضة أن تقنع العالم بعدالة قضيتها وبأنها البديل الديمقراطي العصري الحديث لنظام يسوّق نفسه على أنه آخر قلاع العلمانية في الشرق الأوسط.

مقتل الانتفاضة يكمن في غياب وحدتها وغياب قيادتها، فتحولت إلى جسم قوي مشتت يفتقد لعقل يوجهه. وسيستمر فشلها ما استمر تشتتها وتشرذمها.

**اتحاد الديمقراطيين السوريين
(126)    هل أعجبتك المقالة (154)

2014-04-02

المقال التحليلي اعلاه للاستاذ سمير سعيفان عميق ويصيب الجوانب الاساسية في عدم تحول انتفاضة الشعب السوري الى ثورة بل اقرب الى فوضى,ناهيك عن عدم تمكنها من اسقاط النظام ولكن رغم ذلك لابد من التاكيد بان النظام هو المسؤول اولا واخيرا عن كل هذه المآسي وهو كان مستعدا لها. ولكن يجب القول ايضا في هذا المجال بان هذا الكلام اصبح معروف وقد اشبع تفكيرا وتحليلا, وهو ليس المطلوب في المقام الاول في هذه المرحلة, المطلوب تقديم حلول واقعية عملية علمية للخروج من هذا المازق ولانقاذ سوريا الوطن والشعب من التشرذم لايقاف ألة القتل والفوضى وايصال سوريا الى بر الامان بتحقيق طموحات الشعب السوري في العدالة والحرية والكرامة ان اعادة التاكيد بان انتفاضة الشعب السوري تحولت الى فوضى وبدون تقديم الحلول والاستراتيجيا لمعالجة ذلك والاكتفاء ببعض التصائح والكلمات في نهاية مقال تحليلي طويل لهو كلام مع شديد اسفي وبرغم معرفتي بالاخ سمير به وبمواقفه الوطنية, لهو كلام يثير الشبهة, لانه لا يقدم الحلول بل يزيد من حالة الاحباط والياس عند مجموع الشعب السوري الصامد والمظلوم, وهو ايضا يعطي الحجج للنظام بان هذا الشعب غير ناضج ولا يستحق غير هذا كفانا تحليل بما كان وما هو, نحن بحاجة الى تطوير برامج وحلول واستراتيجيا بما يجب ان يكون وكيف السبيل الى ذلك, وهذا يجب ان تصنعه مجموع القوى والشخصيات والفئات الوطنية, وانا اقترح ان يكون بداية من خلال عقد مؤتمرات وطنية في جميع اماكن تواجد السوريين, ومن ثم مؤتمر وطني عام معتمدا على هذه المؤتمرات للخروج برؤية واستراتيجيا لتحقيق اماني وطموحات الشعب السوري في العدالة والحرية والكرامة \.


التعليقات (1)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي