
عن دار نشر: مركز الحضارة العربية بالقاهرة صدر عام 2005 كتاب" كمنجة التوت" للشاعر محمد يوسف0 ولا تدهشك المسافة الشاسعة بين المضاف والمضاف إليه؛ فهكذا الحداثة0 ومحمد يوسف كما جاء في سيرته الذاتية من مواليد المنصورة في أول مايو 1943، وتوفي في 18 نوفمبر 2003 0 للمؤلف العديد من الابداعات والدراسات0 وأول ما يطالعنا من هذا الكتاب هو الإهداء: (إلى دمي الذي....) وذلك قبل أن ينفتح المشهدجعلى الطفولة التي يحملها الشاعر تحت جلده حيث يرحل0 وهذه الطفولة متعلقة به لا تريم0 نقرأ في "سوق السمك":
[في أواخر سبتمبر/ كانوا يجيئون/ كان توت طفولتي على مرمى بياض منهم/ وكانوا يأتون إلى بيت أمي/ يطلبون شربة ماء/ أو فص ثوم/ أو فحل بصل/ أو قليلا من الملح والكمون/ أو كل ذلك/ وكانت واحدة من الماعز تشرد عنهم/ فأتحدث إليها: أيتها الغجرية الجميلة لماذا تخرجين على النص؟ كانت تبتسم وأنا أعطيها قليلا من الملح والكمون/ وكسرة من رغيف العزلة/]
ويأخذنا الكتاب إلى هاتيك الرحاب ، وها هو التوت يأتلق في تلافيف الذاكرة، وها هو الشاعر يقبض على الومضة الشعرية قبل أن تنفرط بعيدا عنه عناقيد التوت!0 نقرأ: [ماذا أقول لـ / نوستالجيا التوت / التي تتخفى في خضرة الحلم وإيقاع الأرض/ وشقشقة الحنين/ في الطوب الأخضر الذي بذاره.... من شجن التوت؟]
وفي نفس القصيدة: "سوق السمك" يحدثنا الشاعر عن ولادته ، وعن الهم العام الذي مايزال محدقاً: [بعد ولادتي في أول مايو 1943 / كانت أول رضعة من ثدي أمي لها نكهة الحنين/ إلى لغة البياض/ كانت مصر ولادة/ كان ضرعها ممتلئا/ من أندلس القطاف/ إلى يتم الصفصاف/]
ونقرأ المزيد، فمازال يأتلق التوت في تلافيف الذاكرة ومخابئها: [يا أمي/ الدمع/ بياض / التوت/ ]
إن الماضي بكل ما فيه من بساطة وعفوية وبراءة لا يغادر الشاعر ، بل يظهر له في كل منحنى وكل عطفة، ومن البعيد النائي تجيء تلك النبتت الخضراء التي لا ينساها : [ويكون سريس الحقل سقيفة أيامي]
وها هو شاعرنا يدرك جسامة الأحداث التي تمر بها مصر والمنطقة وينتقد الواقع المر فنقرأ له وكأنه يكتب بمشرط أو سكين: [ أما أنا/ يوسف المقطوع/ فقد تفتح وعيي على ثورة/ انقلاب يوليو 1952 / كنت في التاسعة من عمري عندما سمعت باسم اللواء محمد نجيب(قائد الثورة)00 ثم انحرفت الثورة في أزمة مارس 1954 فأكلت "ابنها الكبير"00 و00 صار عبد الناصر في "فوهة" الكاريزما؟! ولما طفحت الكاريزما الناصرية غطت على فيضان دم الرؤوس المقطوعة]
وبعد هذا يجيد تلخيص الصورة وتركيزها في كلمات:[ كان الملعب لا يتسع إلا للصوت الواحد00 والدكتاتور الواحد00 والموت الواحد] ويقرر أن الكمين قد اتسع وأن السجن قد ترامى [ من الكابوس إلى الكابوس]
فأين كان محمد يوسف من كل هذا؟
يستحضر الشاعر سنابل الحلم في قصة سيدنا يوسف ليقول بمرارة عن نفسه:[ وكان يوسف/ غارقا/ في دم السنبلة العجفاء0
نستأنف العزف على (كمنجة التوت) لمحمد يوسف ، وتنساب نغمات البراءة المندفقة عن الطبيعة الأم ، وعن النقاء الكوني بعيدا عما اقترفته اليد البشرية من تلوث في كل الميادين 0 إننا هنا في حضرة الوردة الخارجة من رحم الأرض: اقرأ معي:
[الوردة/ لا تقرأ الصحف اليومية/ لا تدس أريجها في متاهة العولمة/ لا تشاكس الخراتيت/ في غابة القطبية الأحادية/ الوردة/ هي الوردة:/ بياض الصمت/ غواية اللغة/ الخارجة/ من رحم الأرض /]
وللشاعر أيضا حس صوفي رائع، يذكرنا بالنفري صاحب المواقف والمخاطبات، ويبدو هذا جليا في قصيدة:موقف الوردة التي من بدايتها نحس وكأن النفري هو الذي يتكلم مخبرا عن الذات العليا:
[ أوقفني في الوردة/ قال/ تورد فتوردتُ/ فكان الورد وريدي/ أنشدتُ/ فكان الشوك نشيدي/ كان الصفصاف إذا شف/ تمددتُ/ على غصن من عطر/ وتوضأت/ سجدتُ/ تهجدتُ/ مددت على تعريشته حرقة يتمي ومقامي/ تمددتُ فيوضات الصلصال الشفاف فكان تمامي/ ]
وهكذا يأخذنا هذا الكتاب إلى انفتاحات في الأفق عليا، وإلى شموس تسكرنا طلعتها ، ومازلنا نتنقل حتى نصل إلى قصيدته عن" نجيب محفوظ" .. ذلك الذي يثبت كي ينفي، إنه الحرفوش الأكبر الذي يتجول في الملكوت حيث يعري الرمز المعتم ويغطي الرمز الشفاف0 بماذا؟ يجيب محمد يوسف: بإيقاع التوت0 نقرأ:
[ لا الجبلاوي، لا عاشور الناجي، و00سعيد مهران، و00 نفيسة، والتايه في أصداء السيرة/ لا00 ميرامار/ لا 00 ثرثرةٌ فوق النيل/ لا0 الكرنك/ لا0 0 / فالحرفوش الأكبر يتحول كالرمز الخافي المخفي المتخفي/ جوانيته برانيته/ شكلانيته مضمونيته/ سرديته أسلوبيته/ و00 الرمز الخافي المخفي المتخفي/ لا يكفي أو يسكفي/ الحفوش الأكبر ملك يتجول في الملكوت/ حين يعري الرمز المعتم ويغطي الرمز الشفاف/ بإيقاع التوت00 والرمز الخافي المخفي المتخفي كالشفرة بين الحدين/ وبين الضدين/ ينفي كي يثبت000 يثبت كي ينفي00 !]
ومازال في هذا الكتاب الرائع الكثير من الكنوز، ومقهى الفيشاوي في الوجدانله الذكريات الممتدة عبر أنهار الحياة0 [ المقهى إيقاع أخضر/ يدخل في إيقاع أخضر/حتى يبلغ أندلس الأوجاع- الشاي له ذاكرة النعناع/ النعناع له ذاكرة الناي/ ]0 ونمضي في قراءتنا للكتاب فنطالع في النصوص توجعات وسخريات عن تورابورا وجوانتانامو وبورتو أليجري، وفي مؤتمر دافوس[ هناك ممثلو شعوب يسمح لها بخمس وجبات في اليوم/ مع حبات ليمون تعصرها على الكبسولة الألكترونية/ وفي بورتو أليجري/ ممثلون لشعوب تحصل على وجبة واحدة/ كل خمسة أيام]بهذه العبارة التي اقتبسها محمد يوسف من كلمة سيلفا دا لولا رئيس البرازيل في افتتاح منتدى بورتو أليجري الثالث في يناير 2003 وكان دا لولا قد قال هذه الكلمة ثم غادر إلى دافوس0 (هوامش ص 180)0
كلمة أخيرة: محمد يوسف الذي يحمل هموم بلده وهموم الإنسان في كل مكان من الأرض، ويعبر عن أحاسيسه ورؤاه بهذه الشفافية والرهافة - جدير بنا أن نقرأه أكثر من مرة ، وأن نبحث عن بقية أعماله الشعرية القيمة لننهل من ينابيعها ، وهي: قراءة صامتة في كراسة الدم ، عزف منفرد أمام مدخل الحديقة، الحفر بالضوء على أشجار حديقة الدر، صلصلة، داليا00 وغير ذلك كثير0
وإلى اللقاء في كتاب آخر....
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية