أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

بين العبث و الثورة , تأملات ثورية بعد قراءة دانييل خارمز ... مازن كم الماز

كما يحدث كثيرا في الحياة تعبر حياة السوريالي الروسي دانييل خارمز أو تشارمز قبل فنه عن حقيقة هذا العالم السوريالية .. عندما تجد نفسك في مواجهة "نقيضين" ليسلا إلا شكلين مختلفين لذات المفهوم أو الفكرة , عندما تجد نفسك في مواجهة كل شيء , كل الثقافة السائدة بكل أشكالها المتناقضة , في مواجهة ثقافة القهر و القمع , ثقافة القطيع و التوافق و التماثل و التصفيق و النفاق و الخضوع للقوة و للسائد من أساسها , لا تفرق بين أي من تجيلاتها المتصارعة حتى الإفناء ..
 كان خارمز ممن أدركوا بسرعة محدودية المشروع البولشفي لتغيير روسيا , و وعوا شموليته و زيفه , رغم التصفيق و التهليل , و رغم القمع و الرقابة , سواء التي مارستها أجهزة قمع السلطة الجديدة أو مارسها الناس على أنفسهم بشكل ذاتي .. إن إحدى أصعب المهام التي تواجه الإنسان هي أن يدرك واقعه كما هو بالفعل , إن محاولات "تفسير" الواقع ليست إلا محاولات لتشويهه و تزييفه ليتطابق مع تصوراتنا و أفكارنا المسبقة , أن نرى الواقع كما هو بكل تناقضاته بعيدا عن أي تبسيط أو تزييف يخدمنا , يجعلنا نبدو أجمل مما نحن عليه , أو ليتوافق مع الأساطير التي نؤمن بها الخ , أن نقر بالواقع كما هو عمل هائل جدا بالفعل .. السؤال هنا : هل كان تشارمز عبثيا أم ان الواقع ذاته كان هو المفعم بالعبث ؟
 هل كان تشارمز عبثيا أم أن البولشفية ذاتها حتى في لحظة صعودها كانت وهم خلاص و أن شعبويتها الحقيقية يومها لم تكن إلا إيمان غبي بإله مزيف ؟ ليس فقط احتقار خارمز لكي شيء , و هي الفكرة المركزية في فلسفة العبث , و لا حياته التي قضاها على الهامش , هامش كل شيء , على هامش المؤسسات الهرمية الفوقية الحزبية و الثقافية و الدينية , الحاكمة و "المعارضة" , بل خاصة في موته , كان الكاتب , الذي رفض تمجيد ستالين و رفض الصمت أيضا , قد اعتقل في آخر أيامه بتهمة الخيانة العظمى , و أودع قسم الأمراض العقلية من سجن لينينغراد الأول , إما لأنه ادعى الجنون أو لأنه كان يبدو مجنونا لسجانيه , هناك في سجنه مات خارمز جوعا بسبب الحصار الهتلري على لينيغراد , قتله الاثنان معا , عدوا خارمز اللدودان , اللذان كانا يتصارعان بدموية على السيطرة على أوروبا يومها , في تلك اللحظة اتفق الخصمان و اشتركا معا في قتل خصمهما الأشد الأخطر على تفاهته الظاهرة أو ربما خاصة بسبب تفاهته الساخرة تلك ..
 طالما اعتبر الجميع أن عملية التخلص من ذلك الصوت النشاز , الذي يفضح كل الأوهام , أوهام السلطة و الوعي الجمعي , على أنه ضروري و مبرر أخلاقيا و إنسانيا "دفاعا عن المصلحة العامة" ( مصلحة الدولة أو الجماعة ) .. لقد ترك لنا خارمز حكمة مهمة : في الحروب , حتى في أكثرها همجية و دموية , ليس من الضروري أن تكون ضحية غبية .. حكمة أخرى من خارمز يمكن تطبيقها على الثورة السورية أيضا : حدثنا تشارمز في إحدى قصصه القصيرة عن إنسان كان يتمنى أن يلتقي بساحرة ليطلب منها أن تجعله أطول و لو قليلا , لكنه عندما يراها أمامه تأخذه الدهشة فيتلعثم و أخيرا تختفي الساحرة قبل أن يتمكن من النطق بكلمة , لقد مرت من هنا ساحرة شريرة كانت قادرة على أن تحقق أمانينا اسمها الثورة , لكن ربما بسبب ترددنا , بسبب خوفنا من أن نفكر بحرية أن نصف الواقع كما هو , و ربما عجزنا عن أن نكون ثوارا حقيقيين في فكرنا و قولنا , عجزنا عن أن نتخلص من خوفنا من السلطة و خوفنا من مواجهة السائد و ثقافة القطيع و الطاعة و التوافق و النفاق و التصفيق الجماعي , لكل ذلك ربما لم نستطع أن نفهمها أننا كنا نريد حريتنا

(147)    هل أعجبتك المقالة (149)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي