أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

المارشال بيتان في الثورة السورية

لم يعتقد أبدا بأن اسمه سيكتب في سجل الخانعين؛ فإن لاح له طيف من ذلك أزاحه بسرعة وعنفوان... فحتى إن وصفه بعض الرعاع بوصف غير لائق بمكانته فهذا لا يهم أبدا ولا يغير قناعاته الراسخة، فهؤلاء أقل من أن يفقهوا حقيقة الأمر أو أن يتمكنوا من فك طلاسم السياسة والتاريخ، أما هو فعسكريمتمرس ومفكر استراتيجي بارع يعلم حقائق الأمور ويرى الماضي والمستقبل بآن معاً. لم أنقل هذه العبارات عن أي مرجع ولكني افترضت أن أحاديثاً ذاتيةًمشابهةً قد دارت في خلد أحد أشهر رجالات الدولة الفرنسيين في القرن الماضي عندما وافق على توقيع اتفاق الاذعان مع هتلر في عربة الاستسلام الشهيرة عام 1940. إنه المارشال هنري فيليب بيتان الذي كان من أبرز القادة العسكريين المقاومين للتوغل الألماني خلال الحرب العالمية الأولى فحفر اسمه آنذاك في ذاكرة الفرنسيين كمثال رائع للشجاعة والاقدام الوطني الخالص في وجه الغزاة بعد الانتصار الذي أحرزه على القوات الألمانية في معركة فردان سنة1916. ولكن، إنه الشخص ذاته الذي استسلم للغزاة الألمان عام 1940 وأسس حكومة فيشي محتفظاً لنفسه بالصلاحيات التنفيذية والتشريعية. وبالطبع، كان لموقف بيتان مبرراته من وجهة نظره فهو لا يريد لشباب وطنه أن يكونوا طعاما للموت من أجل أن يحيا من كانوا بنظره ساسةً أقزاماً لا يجمعون على رأي واحد فإن اجتمعوا فمن باب المصالح الضيقة. بيتان رأى أن موقفه هذا هو عين الصواب وأنه لن يحفل بما سيقوله من هم أقل منه شأناً وفكراً.

وصحيح أن بيتان السوري لم يظهر بعد في الثورة إلا أن أعراض ظهوره آخذة بالتكاثف. فلسنا بدعا من المجتمعات حتى لا يصيبنا ما أصاب غيرنا، وفي التاريخ من الأمثلة عن تراجع موقف أبطال الأمم وكتابها وشعرائها وتغير توجهاتهم الى حد تبني مواقف لا تشوه تاريخهم الناصع فحسب بل تحل محله فلا تتذكرهم الناس الا بمواقفهم البائسة. وفي ذهن كل منا عشرات الأمثلة لشخصيات عامة انحدرت في تفكيرها الى مستوى الاندماج التام ما بين الذات المتورمة وبين الأحداث الجسام التي تمر بها الأمم؛ فأصبحوا لا يرون الخلاص الا على ايديهم وبما يرونه هم مناسباً، وأضحى التخبط فيتصريحاتهم ومقارباتهم مشهداً يومياً تنتجه عبقريتهم.

وفي ثورتنا الصابرة يغرق كثير منا في التنظير الذاتي الى حد النرجسية المفرطة عندما يتناولون تاريخهم ومقارعتهم لكافة أنواع الأعداء الايديولوجيين والدينين والتاريخيين والقوميين وغيرهم وغيرهم... ويحار المرء في تتبع بعضالمعارضين لجهة محاولة ايجاد الخط الفاصل بين الذاتي والموضوعي وبين الفكري النضالي والثوري في ما يكتبون أو يقولون. وفي حين قد يكون من الطبيعي أن تتماوج الأفكار والطروحات بل وتتبدل الأولويات وتتغير التفسيرات الخاصة بالمبادىء والرؤى في زمن السلم والرخاء، ولكن أن يكون ذلك في فورة الغليان الثوري وفي زمن شلالات الدم المسفوح فهذا أمر لا يمكنتقبله.

فثمة مشكلةً حقيقيةً في العثور على موقف واضح ثابت في كتابات البعضتجاه ما يمكن أن نسميه المبادىء العامة للثورة السورية. وتتسع تلك المشكلة أحيانا لدرجة أن المرء قد يجد توجهاً سياسياً ثم عكسه في ذات المقالة أو المقابلة. ويرجع البعض هذا الاختلاف الى كثير من العوامل منها تضخم الذاتوالاهتمام المبالغ به بالظهور وخلو الساحة من المنافسين ممن هم على ذات المستوى والمكانة. ولكن ومهما قيل في تبرير تلك التموجات الأنوية بالغة الخطورة فإن أثرها قد بلغ حداً كبيراً من الاضرار بالثورة بحيث لا يمكن الا وضعه في صلب النقاش العام، ولن يكون الخجل في النقاش والنقد الا طعناً للثورة في ظهرها.
ورب قائل يقول إن من وقف في وجه الظلم يوماً لا يمكنه الا أن يكون رافعاً للواء الثورة وساعياً لتحقيق أهدافها. وقد يكون ذلك صحيحاً ان كان المعيار هو صدق الشخص المعني وصدق نواياه ولكن هذا ليس كافياً. كما أن التضحيات والمعاناة زمن النظام البائد هي محط اعتزاز واكبار واجلال لكنها في الوقت ذاته لن تكون ابداً بديلا للكفاءة والالتزام بمبادىء الثورة وروحها الأصيلة.
ومن جهة أخرى يشوب الوجدان الوطني الثوري حنين عميق للرموز الكبيرة التي اعتادت شعوبنا السير خلفها ومن ثم رفعها الى مكانة عالية تسمو فوق الخطا والنقد. ويقابل هذا الحنين طموحٌ شخصيٌ هائلٌ لدى بعضهم في ملء هذا الفراغ الموهوم، فيؤمن بأن القدر حمله الى ذلك الموقع وأن ليس عليه الا النزول عند رغبته والظروف في التصدي لتلك المهمة المستحيلة التي ليس لها من دون الله كاشفةً الا ان تدخل ذلك المعارض الفذ فوضع النقاط على الحروف. وفي كل الأحوال وكما أن حسن النية في عالم السياسة جريمة كبرى لأنه قد يجلب أهوالاً وويلات مدمرة فإن الخجل من النقد البناء والهروب من محاولة فتح النقاش الهادىء الرزين حول تلك السلوكيات هو أيضا خطأ كبير يجب علينا ألا نقع فيه في زمن الثورة، وإلا فما الفرق بيننا وبين من يقدس الدكتاتور ويراه أعلى من أي نقد.

وفي السياق ذاته وفي ذروة المعركة السياسية والاعلامية التي يخوضها الشعب السوري يتصدر حديث التمثيل السياسي للثورة الكثير من المحافل والمنتديات وتسمع الكثير ممن هم في صلب الأحداث ينتقدون الآخرين حتى وإن حادوا هم أنفسهم عن فكر الثورة وأهدافها، فبالنسبة اليهم إنهم الثورة، والثورة هم...ألم يقل أنور السادات يوماً أنا مصر ومصر أنا، ألا ترى عصابات النظام السوري بأنها هي الدولة السورية –والدولة بريئة منها- وأنها هي سوريا بكل أبعادها أما الآخرين فلا شيء.

وفي حين أن التمثيل السياسي القانوني الصحيح للسوريين في زمن الثورة مستحيل التحقيق فينبغي أن يكون أساس التمثيل هو الالتزام بروح الثورة ومبادئها لا المحاصصة بين القديم في معارضته وبين المستجد فيها ولا بينالداخل والخارج وكأن تشكيلات المعارضة في الخارج قد تأسست على أرضالمريخ بينما ما يسمى المعارضة الداخلية هي داخلية حقاً. كما ان أساس التمثيل هو الكفاءة التي لا يتم اكتسابها في يوم و ليلة ولا بعشرات الدورات واللقاءات والدردشات...أساس التمثيل هو التماهي مع روح الثورة لا التنظير فوقها واسداء النصائح لها وبالذات تلك التي يأتي بها وحي بعد لقاء هنا أو هناك. أساس التمثيل هو ذوبان الأنا مع روح الجماعة وروح الفريق والرضا بأقل الأدوار حتى في حال الاقتناع بأن الآخرين أقل مناسبة لهذا المركز أو ذاك المنصب...أساس التمثيل هو الالتزام.

(133)    هل أعجبتك المقالة (157)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي