حاولت خلال صياغة المادة الحرص على كل حرف لكي أبدو حياديا –قدر الرعب- تحت سلطة نظام مزق مفردة الحياد كما المعارضة من قاموسه الداعي إلى اللاكتابة واللاقراءة واللاكلام، ورغم ذلك احتفظت بما كتبت في شهر تموز/2011، وأعتقد أني أصبت لأن مصيري، لو قُيض للمادة أن تنشر في الشهر الرابع للثورة، لن يختلف عن مصير أصدقاء لم يبقَ منهم سوى أرقام في هاتف رفض كل محاولات حذفها، علما أني أزعم الالتزام بالحد الأقصى من حياد جعلني أشعر بظلمي لشباب الثورة طمعا بإمكانية النشر في صحيفة ستمر على عيادة الطبيب محسن بلال وزير الإعلام الذي زاد المرض مرضا، قبل أن ترمقها عيون ملّت لغة الخشب في صحافة الاتجاه الواحد!
وقد تكون مناسبة أن تنشر المادة ونحن ندخل السنة الرابعة للثورة، كنوع من التذكير بالأيام الأولى، ولو نظر البعض إلى ذلك على أنه ترف ثوري، في زمن تعلن فيه جرافات النظام نصرها على جثث القتلى، لكنها مدينتي التي يرتجف القلم أمام وصف ما حدث لأهليها والسوريين جميعا، كما أعصاب طبيب تهتز نهاياته العصبية بملامستها مبضع يحاول أن يبلغ قمة الحذر أثناء مروره على جرح أغلى الكائنات.

*على أرضنا وبين جمهورنا
ودع أهل حمص "أشرف المعارك على الأرض "الصفة التي أطلقها الشاعر محمود درويش على مباريات كرة القدم خلال إحدى أمسياته الشعرية, فلم يعد ملعب خالد بن الوليد قبلة عشاق الكرة من الحماصنة الذين انقسموا بين فريقي مدينتهم الكرامة والوثبة متفرجين ومشجعين على المدرجات أو أمام الشاشات, حتى صار الملعب ملاعب في باب السباع والمريجة وباب الدريب والإنشاءات وبابا عمرو والخالدية ودير بعلبة والبياضة والقرابيص وجورة الشياح والوعر وكرم الزيتون وباب تدمر - باب التركمان - القصور - القرابيص - الصفصافة - الحميدية - الورشة - باب هود، إضافة إلى الرستن وتلبيسة والحولة والقصير، وغيرها.
وهكذا على حين غرّة اختطفت الشوارع والساحات في بعض أحياء المدينة والريف دور الملعب, مع مفارقة واضحة تتجلى بأن الجمهور تخلى عن موقع وموقف المتفرج في الملاعب ليتحول إلى لاعب يمارس دوره بهتافات تتطابق بنسبة كبيرة مع تلك التي اعتادتها آذان كل من كان يحضر مباراة على مدرجات ابن الوليد, حيث كان أرقاها شعار يعبر عن تسامي الروح الرياضية عندما يجمع بين الفريقين الخصمين بعبارة من قبيل "واحد واحد واحد كرامة و وثبة واحد" يقابله في الميادين الجديدة "الشعب السوري واحد".
غير أن مباريات الشارع قد ترفع من صلاحية الحكم "الخصم" لتتحول عقوبة الإنذار الأصفر إلى أكثر من مجرد التنبيه, قبل أن تصل أحياناً إلى إنذار بلون الدم وما يحمل ذلك اللون من معنى الطرد الذي قد تتجاوز عقوبته الحرمان من المشاركة في مباراة قادمة أو اثنتين أو أكثر, إلى أن تنتهي أحياناً باعتزال لعبة الحياة نهائياً لسبب ولآخر.
*جمعة ورا جمعة
"الشباب صارت معاملتهم كويسة" يقول سائق التاكسي بعد تجاوزنا أول الحواجز الأمنية عند المدخل الجنوبي على دوار تدمر, يقرأ خطأ وجود صحيفة رسمية بين يدي، والشك سيد الموقف. لكن سرعان ما تنقلب عبارات الرضا "المصطنع"، لإرضاء حامل الصحيفة، تذمراً من الحال التي وصلت إليها البلد.
يشتكي سائقنا مهنته التي "صارت بهدلة" منذ بداية الأحداث, حيث نزل المردود إلى النصف تقريباً, خاصة الخميس الذي كان اليوم الأكثر انتتعاشا لتكسي الأجرة مع تصاعد وتيرة السفر من المدينة إلى الريف أو إلى المحافظات القريبة حماه وطرطوس، قبل أن تتلاشى في نهاية الأسبوع.
وليس ضعف حركة السفر السبب الوحيد وراء ذلك, إنما ما أسماه السائق "حظر التجول الطوعي" الذي فرضه السكان على أنفسهم عندما يخيم الظلام على شوارع المدينة، يوم كان فيها شوارع!

*كرة الحزن
في حي العدوية الذي يربط أحياء النزهة بالمريجة مع باب السباع و باب الدريب يروي أحد أبناء الحي ناجي العامل في مجال الإعلان و الإعلام القصة على طريقته, ويبدأ من ليلة الجمعة التي تشهد تسخيناً واستعداداً في الأحياء "الساخنة" التي يجتمع الشباب فيها بعد ظهر الجمعة الذي صار يوماً "مميزاً بصخبه" بين احتجاج المحتجين وتأييد المؤيدين الذين "يتعاملون مع بعضهم بشكل طبيعي" في عمليات البيع و الشراء في نهار اليوم نفسه وغيره من الأيام (هكذا كانوا بداية الثورة).
ويرجع محدثنا إلى الأيام الأولى حين كان سقف المطالب إقالة المحافظ الأسبق "محمد إياد غزال" الذي "قد يكون شكل حالة احتقان معينة بين الناس" , ويرى ابن حي العدوية أن ابتعاد المحافظ وبعض المديرين عن الناس الذين رأوا في أحداث درعا نقطة الماء التي جعلت الكأس يطفح بعد مساهمة أحداث في مصر وتونس في ملئه, إضافة إلى ما أسماه "عدم التسويق الجيد" للإصلاحات التي حصلت مؤخراً رغم أنها "هامة".
ويحمّل ناجي "العرعور"، وهو أحد الشيوخ المؤيدين للثورة منذ انطلاقها، بعض مسؤولية ما يحدث ليلة الجمعة في برنامج يقدمه على إحدى القنوات, في حين أن قنواتنا الفضائية تستضيف أناساً "يتفلسفون وينظرون بكلام لا يفهمه الكثيرون".
ويرى ناجي أن المتظاهرين "مستثارون عاطفياً" رغم إقراره بحقهم في التظاهر لأن "البلد يحتاج إلى إصلاحات" مشيراً إلى أنهم يغلقون شارعهم بالبراميل قبل الصلاة إيذاناً بالتظاهر بعدها, لتبدأ المظاهرة رحلتها من المريجة و باب الدريب وصولاً إلى الشارع الرئيسي في باب السباع "الحي الذي صار نجماً لبعض الفضائيات أثناء الأحداث", والذي ربما أغلب أصحاب محلاته من أقرباء المحتجين, ويستكمل يوم الجمعة صخبه ليلاً بأصوات إطلاق النار "مجهولة المصدر"، علما أن معظم أهل المدينة يعلمون أهل السلاح، ومن جرى تسليحهم؟!
ويعلن اليوم التالي "السبت" أرجحية صدق أخبار "قنوات الفتنة" مع توالي الجنازات بعد صلاة الظهر، على "القنوات الوطنية" التي أعلنت إنكارها لمعظم ما حدث ويحدث.
ويحمّل ناجي الإعلام مسؤولية كبيرة فيما يحدث سواء الإعلام الخارجي الذي لعب دوراً دون أدنى شك من خلال صدارة "غير بريئة" للحدث السوري معظم الأيام, وكذلك الإعلام المحلي الذي لعب دوره أيضاً في استمرار الوضع على ما هو عليه.
"نستطيع اعتبار السبت يوماً لتشييع الجنازات" حسب ناجي الذي استغرب شذوذ قاعدة الحزن الذي يبدأ كبيراً ثم يصغر مع تتالي الأيام, ولكنها في حمص "لا يصغر أبدا" دون أن يذكر السبب !

*الموز و لا المذلة !
يعلن أبو سمير عن عودة الحياة إلى طبيعتها "تقريباً" صباح الأحد, غيرأن ذلك لا يمنع شكواه وهو صاحب محل أجبان وألبان في "باب السباع" من انخفاض حركة البيع و الربح بنسبة تفوق 60%, عازياً ذلك إلى ضعف السوق نهاراً وانعدامه ليلاً نتيجة الإغلاق المبكر للمحلات.
ولا يختلف يوما الإثنين والثلاثاء عن الأحد سوى بارتفاع مستوى الحركة على الطرقات وفي الأسواق, غير أن يوم الأربعاء يشهد قمة في الازدحام, حيث تعود الحياة لطبيعتها فتسترجع الشوارع الرئيسية أرتال السيارات أمام إشارات المرور و تغص الأسواق بزبائنها.
في سوق الحشيش أهم الأسواق الشعبية تنبض الحياة بما لذ وطاب من خضار وفواكه بأسعار اعتاد الأهالي شعبيتها, فترجع البسطة والعربة لتحتل قسماً كبيراً من مساحة الشارع الضيق أصلاً, بعد أن أوشكت على الانقراض بفعل الإجراءات القانونية للمحافظ السابق.
ولأنك في حضرة حمص يوم الأربعاء لا بد أن تبدد الابتسامة شيئاً من القلق الظاهر على الوجوه رغم ندرتها هذه الأيام.
"الموز ولا المذلة" يصيح بائع الفاكهة الصفراء واقفاً جانب عربته, يجذبك ذكاء شعاره ويدفعك للشراء، ولكن عندما تسأله عن أحوال السوق، ربما الصحيفة نفسها تحول دون جواب لا يلبث أن يأتي من جاره صاحب العربة الأخرى "لله الأمر يا تمر"!
*الحياة بسطة!
ويعيد صاحب إحدى مكتبات الرصيف في حمص "أ–ح" رواية المشهد الحمصي على طريقته مستنداً إلى موقعه الاستراتيجي بجانب الساعة الجديدة, التي شهدت أول اعتصام في الثورة.
المتظاهرون أناس عاطلون عن العمل برأي "أ-ح" لأن المحافظ طارد أصحاب البسطات في لقمة عيشهم, وغيرها مما اعتبره مصادر رزق دون تأمين البديل.
ويرجع صاحب "بسطة" الكتب إلى أول أيام المظاهرات منذ كان الشعار (بالروح بالدم نفديك يا درعا) و(الشعب يريد إسقاط المحافظ), فيروي حكاية ثاني وثالث جمعة، مشيراً إلى تحضير مجموعة من الشبان المحتجين لـ"العنف" مسبقاً حينها من خلال حيازتهم بقايا زجاج مفتت لاستخدامها ضد "رجال الأمن".
ولا يخفي الرجل الستيني مشاهداته عن عنف الطرف الآخر باستخدام الغاز المسيل للدموع والضرب المبرح والاعتقال الذي تعرض له المحتجون أثناء محاولاتهم الدخول إلى الساحة, الأمر الذي دفعه إلى الامتناع عن العمل يوم الجمعة.
ويتحدث عن أحوال عادية في المدينة خاصة بعد إغلاق المدارس, فحركة المشاة والسيارات عادية طيلة فترة الدوام الرسمي في دوائر الحكومة, تخف بعدها الحركة بالتدريج لتبدو المدينة شبه خالية ليلاً.
وعن أحوال المنطقة التي يسكنها يسرد ابن حي وادي السايح وقائع مسلسل شبه يومي تجري أحداثه في حي الخالدية الملاصق لحارته, وتتلخص بمزيج من أصوات إطلاق النار مع بعض الهتافات, تبلغ ذروتها في ليلتي الجمعة والسبت وتتراجع حدتها باقي أيام الأسبوع, وعندما نسأله عمن يطلق النار فالجواب على رأس شفاهه "لا أعرف"، علما أني امتنعت عن حمل الصحيفة إياها أثناء استكمالي الموضوع.
*"سيزيف" الإلكتروني
أما خليل فنستطيع اعتبار همومه و شكاويه شبابية, وتحديداً إلكترونية تتعلق بانقطاع الشبكة العنكبوتية لا سيما في يومي الخميس والجمعة, ولكن حين أخبرته أني استخدمت الإنترنت يوم الخميس الماضي, ادعى أن الانقطاع قد يقتصر على بعض المناطق, إضافة إلى مشكلة بطئه الشديد على مدى باقي أيام الأسبوع !
ولم يشفع لخليل اشتراكه بخطي إنترنت عن طريق الجمعية السورية المعلوماتية والبريد, فحين تكون خدمة النت متاحة فإن معظم الأيام منذ نحو شهر ونصف –حسب خليل– تشهد حجباً لمواقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك وتويتر), باستثناء شبكة الموبايل (3g), حيث يمكن الوصول إلى الخدمة بصعوبة بالغة.
وهنا يستغرب الشاب الثلاثيني كيف تصل بعض مقاطع المظاهرات من بعض أحياء حمص إلى قناة الجزيرة خلال ربع ساعة, في الوقت الذي يعجز هو عن دخول الإنترنت !
جودت حسون - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية