أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

الجدران.. تويتر الشارع السوري ومدونة الأحرار !

الرغبة في مخاطبة الآخرين بلغة صامتة مكتوبة أومرسومة، فعل إنساني متجذر في ذهن وعقل الإنسان ومرتبط بفطرته. 
ولكل واحد منا أسلوبه وطريقته في إظهار رؤاه وأفكاره ولذا كانت الكتابة على الجدران إحدى هذه الأساليب. وهذا الأسلوب الممعن في القدم الذي اتخذه الإنسان الأول لتسجيل أحداثه اليومية على جدران الكهوف كان الوسيلة الأولى المتاحة له للتعبير عن نفسه وهواجسه وطريقة عيشه. 

ورغم انتشار الكتابة البديلة عن الحائط كالتدوين على الجلد والورق لم يتنازل الإنسان عن الحائط لتسجيل أفكاره ورؤاه ومواقفه السياسية والاجتماعية، واستمرت علاقته بالحائط عبر علاقة وظيفية رمزية استخدم فيها الإنسان كل وسائله لتوظيف الحائط كعنصر بصري أو كلوحة إعلانية للتعبير عن ذاته وخصوصيته.

وللكتابة على الجدران ميزة ليست متوفرة في الكثير من وسائل التعبير فهي تتيح للمرء أن يعبر عن ذاته بمنتهى الحرية ويمضي تاركاً وراءه جملة مؤثرة أو تعبيراً هادفاً ليقرأه عشرات المارة كل يوم، وقد تكون بعض هذه العبارات تلخيصاً لقصة صغيرة عاشها إنسان ما وتركت في وجدانه أثراً لا يُمحى، ولذلك أصبحت الكتابة على الجدران بمثابة مدونات للبسطاء وصحيفة يومية للفقراء الذين تضيق بهم الأرض بما رحبت ولا يجدون وسيلة للتعبير عن أنفسهم سوى هذه المساحة الحرة المفتوحة، وفيها يجد المراهق متنفساً لا يوفره البيت أوالمدرسة أو أجواء الصداقة أو الزمالة وكذلك العاشق الذي يهرب من خلالها من العيون المتلصصة الجاحظة فيكتب ما يجول في خاطره.
وفي سوريا كانت الكتابة على الجدران "تابو" لا يجرؤ أحد على الاقتراب منه أو ممارسته ورغم ذلك تجد في بعض الأزقة الصغيرة البعيدة عن أعين المخابرات كتابات تعبر عما سماها أحد المفكرين ظاهرة "هتاف الصامتين".


"فاتك الباشا" شاعر سوري كان يعمل موظفاً في مصفاة حمص مغمور يعشق كتابة الشعر على الجدران والإعلان عن بعض أمسياته التي يقيمها هنا أوهناك في مدينة حمص وقد دفع ضريبة ذلك من حريته إذ سجن أكثر من مرة ومع ذلك استمر في ممارسة حريته الخاصة على الجدران إلى ما قبل اندلاع الثورة السورية التي أتاحت للكثيرين وبالذات المناطق التي سيطرت عليها المعارضة حرية الكتابة والتعبير عن مشاعر مكبوتة منذ سنوات طويلة.

ورغم تزايد من يحملون السلاح من الثوار بوجه النظام السوري، استمر الكثير من النشطاء في ما سمي عملية البخ على الجدران. التي اعتبرها الناشطون السوريون إحدى الوسائل السلمية للتأكيد على استمرار ثورتهم ضد النظام وبمثابة "تويتر الجدران".
ولا ننسى أن الكتابات التي خطتها أنامل أطفال مدينة درعا السورية كانت بمثابة الشرارة الأولى التي أطلقت الثورة. عندما كتب هؤلاء الصغار على جدران مدرستهم عبارات مثل "الشعب يريد إسقاط النظام" و"إجاك الدور يا دكتور"- في إشارة إلى الرئيس السوري بشار الأسد ومصيره المتوقع كما الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي آنذاك- ليدفعوا ثمن هذا التعبير الاحتجاجي غالياً بعد أن قامت المخابرات السورية باعتقالهم وتعذيبهم واقتلاع أظافرهم عقوبة لهم على تصرف عفوي لم يعرفوا ماذا يعني في عُرف دولة تحكم بالنار والحديد منذ أربعين عاماً. 

ومن درعا امتد هوس الكتابة الاحتجاجية على الجدران إلى باقي المحافظات السورية التي برز في كل منها ظاهرة سميت بـ "الرجل البخاخ" الذي كان يمتشق علبة البخاخ بدهانها الأسود غالبا، وينطلق تحت جنح الظلام إلى الأزقة والشوارع الخلفية ليمارس حريته الخاصة في تدوين عبارات تعكس أجواء التظاهرات على الجدران، وأخرى تهزأ من النظام ومن رأس السلطة فيه، وجاءت تسمية "الرجل البخاخ" من إحدى لوحات السلسلة التلفزيونية الشهيرة «بقعة ضوء»، التي عرضت لوحة بهذا الاسم في جزئها السادس عام 2008 عن هذا الرجل الذي أرهق المسؤولين ورجال الأمن بكتاباته على جدران المدينة، الأمر الذي استفز رجال الشرطة، فأنهوا القصة بحبسه ضمن غرفة بيضاء برفقة عنصرين مهمتهما دهن الغرفة كلما خطر بذهن الرجل البخاخ أن يملأها بهمومه وأحزانه.


وروى الصحفي السوري إياد شربجي على صفحته الخاصة على موقع التواصل الاجتماعي (فيس بوك) في بداية الثورة السورية أنه التقى "الرجل البخاخ" خلال إقامته في فرع الأمن الجنائي في "باب مصلى" بعد اعتقاله مع عدد من المثقفين في حي الميدان قائلاً: «كان شاباً في العقد الثالث من العمر. وعرفنا أن اسمه أحمد خانجي، وهو مهندس، ويسكن في منطقة أبو رمانة الراقية في دمشق، ولديه عمله الخاص وسيارته الحديثة. كان أحمد يخرج إلى دمشق القديمة ويكتب عبارات ضد النظام على الجدران، وفي إحدى الليالي، وبينما كان يبخّ عباراته في المنطقة، فإذا ببعض الأهالي يلمحونه، فيطاردونه بين الحارات، وفجأة يفتح له أحدهم الباب ويدعوه للدخول، وعندما يفعل يقوم هذا بإغلاق الباب عليه ثم إحضار الشرطة لتعتقله، كان أحمد متألماً جداً، ليس من الاعتقال بحد ذاته، بل من "السفياني" الذي سلّمه للشرطة وقد دخل إلى بيته آمناً. 

حكاية مدينة... حكاية حرية
مدينة إدلب وريفها كانت ولا تزال ظاهرة مميزة في ثقافة الاحتجاج على الجدران وبالذات مدن "كفر نبل" و"سراقب" وأنشأ ناشطون على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" صفحة باسم "حيطان سراقب" جعلوا شعارها "هي حكاية مدينة, حكاية الحرية, تخطها أنامل شعب يرفض الذل ويأبى إلا أن يكون حراً".
وخصصت هذه الصفحة لنشر صور اللوحات الجدارية المنتشرة في المدينة كي لا تبقى حبيسة حيزها الجغرافي، ولإيصال رسائلها إلى أكبر قدر ممكن من الناس ولتعميم هذه الفكرة على بقية المدن السورية، وفق ما أفاد أحد المشرفين على الصفحة.

وجاء في أحد التعليقات على هذه الصفحة "حيطان سراقب بتحكي بكل اللغات ... حتى لو خلصوا البخاخات وعيدان الفحم.. بالغبار ومن بين الركام رح نكتب عالحيطان لنوصل رسالة ثورتنا الحنونة.. ثورتنا الصادقة مع سوريا الحبيبة".
وعلى الجانب الآخر تتبع قوات النظام الطريقة نفسها في الكتابة على الجدران لدى دخولها لمدينة ما فتمحو ما كان مكتوباً على جدرانها وتكتب بدورها الكثير من الشعارات مثل "الأسد أو لا أحد"، "الأسد أو نحرق البلد"، وعبارات استفزازية مثل "جيش الأسد مرّ من هنا"، و"لا تشاغبوا نعود" أو "وإن عدتم عدنا".

ومع بداية انخراط مليشيا حزب الله في الحرب الدائرة في سوريا إلى جانب النظام بدأت بعض التعبيرات الطائفية تظهر على جدران المدن والبلدات التي يسيطرون عليها مثل "قادمون يا حسين"، "ثاراتك يا حسين"، "لبيك يا حسين"، "لن تسبى زينب مرتين"، "يعيش حزب الله.. تعيش إيران.. يعيش جيش المهدي".

فارس الرفاعي - زمان الوصل
(404)    هل أعجبتك المقالة (537)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي