من المهمات الضرورية، لتعميق الثورة فكريا وسياسيا، مهمة قراءة التاريخ القريب وتقويمه للاستفادة من تجربته. التجارب الناصرية جزء مهم من التاريخ الحديث، يجب أن يطالها النقد الموضوعي والقراءة الناقدة الجريئة؛ لأنها مازالت تحاول مد عصاها السحرية ذات القداسة التاريخيّة لترهيب الشعب كأحقيّة ناصرية اعتمادا على الهالة العاطفية والطاقة المعنوية لصورة الرئيس جمال عبد الناصر وخطابه لدى جمهور كبير عفوي أو مغيب عن الفهم السياسي والقراءة التاريخية.
يجب تحليل الواقع السياسي عميقا وبنيويا بأبعاده الفكرية والمجتمعية والعربية ضمن ثنائية الحرية والعبوديّة، وضمن ثنائية الظلم والعدل، بناء على متناقضات الإشكالية المهمة المتمثلة بالخواء الفكري والقيمي والثقافي والسياسي لهذه التجارب السياسية نتيجة إسقاطها، غير المنظوم منهجيا، على الواقع مافي أذهانها وتصوراتها وأفكارها ومصالحها؛ وليس اعتمادا على استحقاقات جوهرية في الواقع، وعلى ما في صالح المجتمع..ومن دون وصاية مسبقة راسخة، ومن دون مصادرة قرارات الوطن وحالات الاختلاف......
موقف الناس، في الأغلب، كان متعاطفا وحماسيا مع الريئيس جمال عبد الناصر كزعيم تاريخي له ظروفه وتاريخيته وعاطفيته وشجاعته. لكنّه لا يعني إعطاء الرئيس حالة التفرد التاريخي ولا يعني فرض امتداده التاريخي على الأزمنة والأمكنة والتجارب والاحتماء بهالته للانقضاض على اي مشروع وطني مخالف. ليس قولنا دفاعا عن الديمقراطية وتطورها، فهذا منحى آخر؛ لكنْ، لأنّ موروث عبد الناصر التاريخي يفتقر لرؤية متماسكة واضحة للأدبيات الفكرية والسياسية الصالحة لبلورة نهضة سياسية تحررية عادلة وفق عمق عقيدي. والمستغرب، حقا، منحه من قبل الناصريين، الخلود والأبدية تماما كنظام الأسد الأب والابن....
حتى الأنبياء يجب أن يعيد الثوار قراءة منتوجهم السياسي والاجتماعي والثقافي ضمن السياق التاريخي وسياق التوثيق المنهجي...فكيف بفرد عسكري أصبح حاكما سياسيا وصل عبر انقلاب عسكري جماعي، ثم استطاع رغم تفرده المدعوم بهيمنه امنية داخليه، بيد مناصريه، القيام بإنجازات وطنيّة وتطويرات اجتماعيّة كبيرة وقرارات سياسية جريئة مهمّة؛ لكنها لم تحقق ديمومة و ثورة عميقة مؤثرة، ولم تترك وراءها منظومة فكرية وعقائدية وسياسية رفيعة..فسرعان ما انقلب الحكم بعد رحيل جمال بد الناصر واستلام صديقه السادات الحكم إلى التسوية والانعزال، وإلى تنازلات وطنيّة خطيرة واتساع طبقي حاد.
من الضروري جدا فصل تجربة عبد الناصر عن تجارب الناصريين ، خصوصا في حراكهم داخل الواقع الحالي. وأهم مؤشر قريب واضح يسوّغ للفصل هو موقف عبد الحكيم ابن جمال عبد الناصر الذي وقف يؤيد نظام الأسد الطغياني ضد الثورة السورية. وهو موقف شبيه بكثير المواقف المخزية للناصريين على امتداد الجغرافيا العربية. وفي سوريا بالتحديد. فقد أثبت الناصريون فساد مواقفهم السياسية والوطنيّة مثل كثيرين غيرهم من الأحزاب التي تحركت عبر العقود الماضية في ظل أنظمة استبدادبة شموليّة، ولم تعد قادرة على تقديم إلا ملفوظات ومحفوظات شفوية بالديمقراطية وحرية الإنسان وكرامته وحقه في العيش العادل .
حققت الأحزاب التقليدية، بجدارة منقطعة النظير ، تحالفات بقاء مع النظام السياسي القائم، وأصبحت جزءا ثقافيا وسياسيا وإعلاميا من اللعبة الاستبدادية الفاسدة والقاهرة في نفاقها للأنظمة الدكتاتورية والرجعية وفي المراوغة الدنيئة، وفي تكسبها النسبي للحصول على فتات المصالح والمناصب... ..وقد اصطفت في جبهة النظام، على الرغم من لبوسها ثياب الأحزاب المعارضة، ثم تمادت في باطلها ودعمت أنظمة الاستبداد الظالمة الباطشة بشكل واضح، بعد ثورات الربيع العربي الشعبيّة. ووقفت في صف الطغاة، ضد الشعب الذبيح ، سواء في دعم نظام الأسد الذي ينفّذ حرب الإبادة في الشعب السوري، أو في دعم الطاغية السيسي، أو في محاربة الأخوان المسلمين العدو التقليدي للناصريين، بغض النظر عن الحق والحقيقة، ثم بغض النظر عن بعض الحالات الاسثنائية المشرفة لشهداء ناصريين وغير ناصريين من احزاب أخرى ناضلوا من أجل الحرية والعدالة وكافحوا البطش والطغيان.. ولذلك سقطت اسماء كثيرة كانت لامعة في النضال الناصري،
لعل هذا السقوط الجلي لكثير الناصريين وقبله سقوط أحزاب اليسار المثقفة والأحزاب العلمانية وسقوط الحراك الديني المتحالف مع النظام وحركات السلفية الإسلامية، وسقوط أحزاب الممانعة مثل حزب الله أمام استحقاق الثورة السورية التاريخي والإنساني ـ يظهر لنا خطر هؤلاء المدعين والمنافقيين السياسيين من كل الأطياف، حملة العقل الرجعي، وضرورة أن يحصل تغيير ثوري حقيقي لدى الشرفاء والنبلاء منهم ؛ لكي يواكبوا من دون تنظير أو نخبوية أو وصاية على القومية والديمقراطية والحرية والدين متطلبات هذه الثورة العظيمة التي أظهرت لنا كثيرا من الحقائق الخطيرة المتعلقة بالعقل الانعزالي والفاسد والمرائي والخائن والرجعي في تجاربنا السياسية ، خصوصا تلك التي كانت تتحصن بوجدان الجماهير وضمائرها وتوسّعت..ثم استباحت إنسانية الحاضنين لها بأنايتها وغرورها وطمعها الجشع...
حتما لن ينسى كثير السوريين حقيقة الذين كانوا يرونهم مناصرين لكرامة المواطن العربي رافعين شعار العروبه والمقاومة، لكنهم أثبتوا فشلهم وانسلخوا عن إنسانيتهم وشعاراتهم البراقة وعن أمتهم حماية لمصالحهم الشخصية والفئوية والحزبية المرتبطة بالطغيان.
أخيرا... لا يعقل أن يكون هناك ثورة تحررية، وبعض السياسيين مازالوا يدرجون حراكهم السياسي تحت اسم شخص رحل. مجرد شخص انتهى زمنه وعصره ووجوده... وحتى شعاراته التي كانت براقة ، خف لمعانها، وأصبحت نمطية ممجوجة لا تلائم متطلبات شعب يريد نهضة وتعريفا واقعيا مقبولا للعروبة والقومية والعدالة والحرية والاشتراكية والدين والدولة والتشريع....زمن انتهى...فلنبحث عن الإجابات الشجاعة الناضجة وعن الأسئلة الجديدة الجريئة في ضوء قراءة الواقع والمستقبل ومن ضمير الشعب ووجدانه وأصالته المتجددة,,,,
د. سماح هدايا
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية