من نافلة القول بأن معظم أهل الثورة بعيدون عن تأييد عمليات الخطف حتى وإن كانت لغرض يراه صاحبه مفيداً للثورة. ومن نافلة القول أيضاً بأن عملية خطف الراهبات قد أصابت الكثيرين منا بإحباط شديد، فمعظمنا يرى أن الدفاع عن الحق يرتبط بالوسيلة كما الهدف، وهذا يعني احترام قواعد الشرع الحنيف والعرف المتأصل عالمياً وإقليمياً الذي منع مقاربة المدنيين غير المقاتلين وبالذات رجال الدين وأهل الصوامع إلا بالتي هي أحسن. وسمعنا خلال الأيام الماضية مقولات تبرر الخطف على اعتبار أنه الطريق الوحيد لتحرير معتقلينا الذين يقضون تحت التعذيب بمعدل لا يقل عن ثمانية من الشهداء يومياً (الموثق منهم فقط). كل ذلك كان جزءا من مشهد التبادل الذي تداخلت فيه الرغبة الشديدة للمقاتلين بإنهاء موضوع الخطف -الذي بدأ بخطأ لكنه لم ينتهِ كذلك بمحاولات الإعلام تحقيق أكبر نصر ممكن للنظام. وفي حين من المعروف لدى الجميع الآن أن مطالب المقاتلين بدأت بالمطالبة بإطلاق سراح جميع المعتقلين من النساء والأطفال وغيرهم ولكن تعنت النظام الذي لا يرى في النفس البشرية إلا خادمة لوجوده واستمراره الكريه في السلطة أدى إلى تقلص العدد إلى مئة وخمسين وبالطبع فإن المشهد الإعلامي لعملية التبادل كانت من أقوى المعارك الإعلامية التي خاضها إعلام النظام وباقي الإعلام السفيه مع نفسه أولا ومن ثم مع إعلام العالم.
فحالما بدأ الحديث عن عملية التسليم شرعت قنوات الأسد الإعلامية والقوات المناصرة له في لبنان تحديداً بضخ كميات كبيرة من الأفكار الموجهة لتناول "الثورة الإرهابية والثوار الإرهابيين" الذين ساموا الراهبات سوء العذاب وعن ارتباطهم بالقاعدة..وعن كونهم من نابشي القبور وآكلي القلوب...كذا بالمجمل...وعن حنكة "الحكومة السورية" التي فاوضت الإرهابيين لتخليص الراهبات من شرور الأسر وسوء المعاملة...حتى أن "الحكومة السورية" في استبسالها في حماية الأقليات وعلى رأسهم المسيحيون فضلت إخراج الراهبات على تحرير جنودها وضباطها البواسل المخطوفين لدى الإرهابيين الإسلاميين. في إعلامهم انقلبت الثورة تمردا وانقلب الثوار متمردين وإرهابيين إسلاميين قاعديين متطرفين إلى ما هنالك من صفات مفبركة، أما المعتقلات السوريات، إخواتنا في سجون النظام فهن بمصطلحات إعلامهم مجرد سجينات أي أنهن إما سجينات جنائيات أو إرهابيات على طريق الإدانة.
ولما بدأت عملية التسليم والنقل الإعلامي المباشر قبيل وصول الراهبات إلى نقطة المصنع تحفزت كاميرات إعلام النظام ومن والاه لتصوير ما بقي من الراهبات بعد عملية الخطف، فهذا الإعلام الذي تعود على معايير النظام الأسدي في حجز حرية الإنسان الذي لا يخرج حياً فإن خرج فسيكون شبحاً لمن دخل التجرية...إلا أن صدق وعفوية الصور التي انتشرت عن معاملة وراحة الراهبات في أسرهن وتعاملهن مع خاطفيهن شكل صدمة هائلة للنظام وإعلامه وداعميه وجمهوره. بدأت الصدمة بظهور الراهبات مبتسمات وبصحة جيدة وزادت الصدمة بسماع الإجابات البسيطة لكن المباشرة عن عدم تعرضهن لأي ضغط، وبأنهن كن عزيزات مكرمات وعلى الرغم من إلحاح مراسلة تلفزيون الجديد على انتزاع قول من الراهبة بيلاجي سياف حول إجبار المقاتلين لهن على نزع صلبانهن إلا أنها لم تحظَ بإجابة تشفي غليلها...ووصل الإحباط إلى حد الهستيريا لما نشرت جبهة النصرة الشريط المصور الذي يبين الراهبات قبيل مغادرتهن الفيلا مكان الاحتجاز وبعض اللقطات خلال الطريق ومن ثم لحظة التبادل وهن يتبادلن التهاني والحديث مع المقاتلين بكل ود ومحبة. ولعل متابعي إعلام النظام من المؤيدين قد تمنوا الموت قبل رؤية مشهد حمل أحد مقاتلي النصرة لإحدى الراهبات التي لا تقوى على السير.
كانت ردة فعل جمهور النظام ومؤيديه غاية في الجمال لأنها عبرت عن حقيقة هؤلاء وحقيقة الدجل الإعلامي الذي ما زالوا يمارسونه منذ لحظة الثورة الأولى...ففي وقت يفترض فيه أن تمتلىء قلوبهم بالفرح والحب لخلاص الراهبات من محنة الاحتجاز وبعملية مفاوضات أسهم بها نظامهم من خلال الإفراج عن عدد قليل من إخواتنا في المعتقلات الأسدية إلا أنهم أظهروا للعالم حقيقة معدنهم فامتلأت مواقع التواصل الاجتماعي بألفاظ السب والشتم والعبارات الخادشة للحياء بحق الراهبات ولم تخلُ قنواتهم الفضائية من عبارات الاستهجان والمرارة والإحباط والتلميحات قليلة التهذيب في وصف ما جرى...ومن جانب آخر توالت التحليلات التي تغوص في أعماق العقل الباطن للراهبات لإيجاد السبب الخفي الذي دعاهن إلى امتداح سلوك المقاتلين وطريقة معاملتهن، فعلى قناة الجديد هو الصبر على ما تعرضن له والإصرار على قنوات التواصل الإيجابي مع هؤلاء كي لا يسيئوا معاملة باقي مسيحيي البلاد أما على المنار فهو وصول مقاتلي حالش إلى مواقع الثوار في القلمون وخوفهم على أنفسهم.
بدأت محنة خطف الرهابات بمسألة أخلاقية غاية في التعقيد بالنسبة للثورة ومؤديها، فنحن لا نستطيع تبرير خطف أو احتجاز المدنيين تحت أي مسمى ومهما كان الهدف سامياً لأنه انتهاك أخلاقي وقانوني والثورة أخلاق أولاً...ولأن النظام واتباعه الموتورين يحلمون دائماً بحصول أحداث كتلك للنيل من القاعدة الأخلاقية والفكرية للثورة وقد استغلوا موضوع خطف الراهبات أبشع استغلال في مختلف المنابر حول العالم...ولكن انتهاء مشهد الخطف ومن ثم التسليم بتخبط المؤيدين ومن والأهم إلى درجة ما يشبه الهستيريا الإعلامية والفيسبوكية قلب السحر على الساحر وغير مشهد آكل القلب الذي تمت إعادته آلاف المرات خلال الفترة الماضية في مختلف المحافل وأحل صورة مقاتلين ثوار لا يحملهم اختلافهم في الرأي أو العقيدة مع الآخر على أذيته بل على احترام إنسانيته والقسط في التعامل معه محل الصور الأولى.
لإعلاميي النظام وشبيحته وجمهوره نقول شكراً مرة أخرى...شكراً على إخراج ما في قلوبكم من بشاعة وحقد ولؤم حتى بمواجهة راهبات صادقات فهذه البشاعة وذاك الحقد هو أساس نظامكم.
من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية