بعيد شعوره بفشل الخيار العسكري -الأمني لوأد الثورة السورية، عمل نظام الأسد على إيجاد صيغة تعامل دائم معها بوصفها وضع قائم ينبغي التماهي معه ومسايرته وفق سياسة العصا والجزرة التي ارتبط ذكرها بوزير خارجية بريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية ونستون تشرشل.
فأما العصا فهي العنف الخارج عن المألوف ضد المناطق الثائرة، وتشديد الحصار الخانق عليها، إضافةً لاعتقال المواطنين، وارتكاب المجازر والفظائع. بينما تتبدى سياسة الجزرة -حالياً- في الهدن المعقودة مع المدن السورية منفردة غير مجتمعة، الهدن التي تمنح هذه المدن الحق في رفع الحصار الغذائي والدوائي، وعدم الاعتداء عليها بالقصف بأي شكل، وإطلاق سراح أبنائها المعتقلين في السجون، والسماح لغير المطلوبين أمنياً بالدخول إليها والخروج منها. بينما تمنح النظام نصراً على خمسة مستويات:
الأول- على المستوى العسكري- الأمني، بمعنى ضمان سلامة دمشق من أي اعتداء يوجه من جهة المنطقة المهادنة، وإعطاء المساحة الكافية لقوات العاصمة بالتحرك لوأد الحراك المسلح في المناطق ذات الحساسية العالية (حلب، القلمون، المنطقة الشرقية).
الثاني- نصر على المستوى الدبلوماسي مقابل المعارضة في مفاوضات جنيف2 بفصلها عن القوى المدنية والعسكرية الثورية في الداخل، وخلق تفاوض ثنائي البعد:
تفاوض ثانوي إجباري: وهو التفاوض -لأجل التفاوض وبهدف التفاوض- مع القوى السياسية المعارضة في جنيف، بفرض من مجلس الأمن وإجماع المجتمع الدولي.
تفاوض أساسي هام: وهو الذي يتم الآن مع القوى المدنية والعسكرية في المناطق المحاصرة.
الثالث- نصر يرقى لوصفه "إحياء للشرعية" أمام المجتمع الدولي، وكسب تأييد الرأي العام العالمي وزيادة تعلق المؤيدين بالظهور بمظهر الحضاري من خلال أنسنة القوات المسلحة السورية، واعتراف الثوار على أنفسهم بكونهم "عصابات مسلحة" يحاربون دولة شرعية قائمة المؤسسات.
الرابع- بث الفرقة والضعف وإحياء الفتن بين المدن السورية الثائرة، وإحداث شرخ اجتماعي سياسي أخلاقي من الصعب إصلاحه بين المواطنين، وتدوير عجلة المناطقية على صعد الأفكار والخطاب والممارسة، مما يمهد لتنحية الهوية الثورية جانباً، وصولاً للاستفراد بالمدن السورية واحدة تلو الأخرى وتفريغها من الفكر الرافض للأسد.
الخامس- على صعيد انتخابات الرئاسة، بمعنى تمرير انتخابات الرئاسة لصالح بشار الأسد، بينما تتواصل مفاوضات جنيف بسويسرا مع المعارضة، وتستمر الهدن بمناطق سورية مع الفئات "المعتدلة"، وتبقى المناطق الشرقية الشمالية غير المحررة عديمة الأهلية للانتخاب بسبب الظروف الأمنية وانتشار التطرف والإرهاب. وهذا يعني فيما يعنيه بقاء بشار الأسد المنتخب ديموقراطياً لسبع سنوات أخرى، وتعهد وفده في مفاوضات جنيف2 بأن الأسد لن يترشح لولاية أخرى.
على الرغم من المبررات المتعلقة بشدة الجوع وكثرة الألم وانعدام مظاهر الحياة الطبيعية في المناطق المهادنة، إضافة لاستمرار القصف وغيرها من الدوافع الإنسانية للانحناء ولو كان قليلاً، إلا أن تبعات هذا الانحناء ستكون مدمرة على إخوة التراب والدم والوطنية والدين واللهجة والعيش المشترك في المناطق غير المهادنة، وكذلك على المناطق التي تتصدى لأقسى وأشد أنواع الحملات العسكرية في شمال سوريا وجنوبها وشرقها.
ربما لا يدرك الكثيرون بأن عودة مظاهر الدولة بعلمها ذي النجمتين في المناطق المحررة، يعني قانوناً وعرفاً وشرعاً أنها لم تعد كذلك، وربما لا يهتم الكثيرون بنظام وشعب أو لم يعودوا يعبأون بثورة، ولكن التاريخ يقول بأن الأنظمة الاستبدادية في مرحلة من المراحل ستعمل للقضاء على أول من استسلم لها، كفريسة سهلة، غير قادرة على الحركة بـــحـــريـــة، كما أن الأثر يحكي قصص الأفخاخ المزينة بالزهور على شاكلة "المصالحة الوطنية".
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية