أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

رجل الأمن المثقف!... عبد الكريم بدرخان

حمص...


كان شاباً طويلاً قبيحاً، يرتدي ثياباً سوداء في الأفراح والأتراح، ولا سيّما المعطف الجلدي الذي لا يغيّره طول الشتاء. يتابع كافة الأنشطة الثقافية في مدينتي حمص، يركب دراجته النارية من مكان مجهول، ليركُنها على باب المركز الثقافي أو اتحاد الكتاب العرب أو مسرح الزهراوي كل مساء، لا تفوته أيُّ محاضرةٍ أو أمسية أو مسرحية، يجلسُ وحيداً منفرداً صامتاً، يخرج دفتره وقلمه ويدوّن كلَّ كلمة يقولها المحاضرُ أو الشاعر، وكلَّ حرف يخرجُ من أفواه المُداخلين والمشاركين.
كنتُ أتعجّبُ لمدى اهتمامه البالغ بالحركة الثقافية في حمص، وكنتُ أظنّه مراسلاً لإحدى الصحف أو للإذاعة والتلفزيون، وهو في الحقيقة يعمل بجدٍّ يفوقُ ثلاثة صحفيين مجتمعين. أما دراجته النارية الممنوعُ ركوبُها في المدن، أوحتْ لي بأنه أحد أبناء الريف الحمصي، ولا يجدُ وسيلة نقلٍ غيرها في أوقات المساء والليل.

وبحكم لقاءاتنا المتكررة، أصبحنا نلقي التحيةَ على بعضنا من بعيد، دون أنْ نتعرّف على بعضنا بالأسماء، فهو يلقي التحية على جميع الحضور، الجميع يعرفه في حمص إلا أنا..!!، لكنّ الذي يشغل بالي، ويمنعني من التعرّف عليه كغيره من الكتاب والشعراء والصحفيين، هو أن ملامح وجهه مختلفة عن ملامح جميع الحضور.

في حي الحمراء الجميل، وفي الأزقة الفرعيّة المغطاة بالدفء والسكينة وعطر الياسمين، يكثر العشاقُ المتسوّلون. وعندما كنتُ سائراً مع إحدى الصديقات، باحثين عن الزقاق الأكثر عزلةً وظلمةً، وجدنا أنفسنا أمام فرع أمن الدولة، كان أمام الفرع أربعةُ عناصر يحملون البنادق الروسية، ومن بين هذه الوجوه الأربعة النيّرة، ميزتُ وجه صديقي ذي المعطف الجلدي، صديقي المتابع للحركة الثقافية بشكلٍ كبير. وخلال ثوانٍ من الذكاء الصاعد مع الأدرينالين، ألقيتُ التحية عليه، فقد خشيتُ أنْ نسمعَ "تلطيشة" من أحد العناصر، وعندها لن يكون مناسباً أنْ أُظهِر "مَرَاجلي" أمام أربعة عناصر أمن يحملون السلاح، وخاصةً في حضور صديقتي.

توطّدتْ علاقتي مع عنصر الأمن المثقف، فمرةً يطلب مني ولّاعة، فأشعل له السيجارة ويشكرني كثيراً، كيف لا؟ نحن زملاء!. وفي إحدى المحاضرات للمفكّر عطيّة مسّوح، لم يفهم صديقي العنصر كل ما سمعه ودوّنه في التقرير، فجاء إليّ بعد المحاضرة ليستشيرني ببعض المصطلحات، ورحتُ "أخرطُ" عليه، وراح يكتب:

العنصر: ماذا تعني الدولة الحامية؟

أنا: هي الدولة التي تحمي شعبها، مثل دولتنا تماماً!

العنصر: ماذا تعني الدولة المتدخلة؟

أنا: هي الدولة التي تتدخل في كافة المجالات منعاً لاستغلال الإنسان، مثل دولتنا تماماً!

العنصر: ماذا تعني الدولة الريعية؟

أنا: هي الدولة التي توزع الثروات على المواطنين، مثل دولتنا تماماً!

العنصر: ماذا تعني الدولة العميقة؟

أنا: هي الدولة التي تقوم على فكر عميق، مثل فكر القائد الخالد!

وعندما انتهينا من الاستجواب، قلتُ له: "أنا أعطيك المعلومات، وأنت تقبض 750 ليرة على التقرير؟".

في إحدى الأمسيات الشعرية، كان العنصر نفسه جالساً إلى جوار الشاعر عمر إدلبي، وعندما كان أحد الشعراء يلقي قصيدةً على المنبر، سأل العنصرُ جاره:

العنصر: هل كان هذا الشاعر في حزب العمل الشيوعي؟

عمر: لا أعرف.

العنصر: وماذا تعرف إذن؟

عمر: أعرف أنْ تقوم وتنقلع من جنبي!

وعلى إثر هذه الجملة، تم اعتقال عمر إدلبي لمدة يومين في الفرع، لكي يتعلّم آداب الحوار مع عنصر الأمن المثقف!.

مع بداية ثورات الربيع العربي، اختفى عنصر الأمن المثقف من النشاطات الثقافية، وعندما كنتُ أسألُ عنه، قيلَ لي: "مناوب على قناة الجزيرة" أو "مناوب على الفيسبوك"!. لكن سرعان ما تمّ استبداله بأربعة عناصر يلبسون المعاطف الجلدية ذاتها، ويتابعون النشاط الثقافي باهتمام مماثل، وسبحان الله عرفناهم من أول نظرة، حيث أنّ: سِماهُم في وجوههم!

وفي بداية شهر آذار كانت الثورة الليبية في أوجها، ووقتها انتشر خطاب القذافي الشهير: "زنقة زنقة دار دار"، وفي إحدى الأمسيات الشعرية الطويلة المملّة، كان عناصر الأمن الأربعة جالسين في صف واحد، ونائمين من شدة الملل. وفي آخر الأمسية خرج الشاعر مظهر الحجي وألقى قصيدة اسمها "المزنوق"، يتهكّم فيها على خطاب الديكتاتور القذافي. وفجأةً انتبه أحد النبهاء الأربعة، فنكزَ زملاءه النائمين بجواره نكزةً كوعيّة جلدية، فاستيقظوا من سباتٍ عميق، واستلّوا أقلامهم وامتشقوا دفاترهم ليسجّلوا كل حرف من القصيدة. وعندها قال أحد المشاغبين في الصف الخلفي وبصوت عالٍ: "فاقوا الحمير"!

ومن بعدها؛ لم نجتمع معهم تحت سقف واحد.

مشاركة لـــ"زمان الوصل"
(126)    هل أعجبتك المقالة (132)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي