أسئلة برسم أرباب الحل السلمي
في مسعى منهم لإثبات صحة مواقفهم وإثبات خطأ مواقف الآخرين، ترتفع عقيرة أرباب الحل السياسي والمسار السلمي في إدانة العنف ومن دعا إليه ومن أيّده، وتحميلهم مسؤولية فشل الثورة وتدمير البلد، وكأن تدخل هؤلاء هو من جلب العنف وما ترتب عليه من كوارث.
لم أكن يوما من أنصار العنف والعمل العسكري ولن أكون، وأنا على قناعة مطلقة أن العنف لا يجر إلا العنف والبؤس والأحقاد، ولا يجلب إلا الخراب عموما، لكن ماذا عن العنف في سوريا؟ وما مدى صحة ما يذهب إليه منظرو الحل السلمي في تحميل خصومهم مسؤولية ما يحصل؟
ثمة أسئلة قد تساهم في حسم هذا النقاش.
السؤال الأول: هل كان من الممكن إقناع بشر عاديين تعرضوا لمثل ما تعرضوا له من أشكال العنف العاري، وعلى مدى أشهر، بالمحافظة على سلميتهم وعدم اللجوء إلى السلاح؟ وهل كان بالإمكان إقناع أب قتل النظام ولدا من أولاده واعتقل الآخر بعدم حمل السلاح؟ أو ذاك الذي سرق الشبيحة محتويات منزله وأحرقوا ما بقي منها، وأصبح هائما على وجهه مع من بقي من أفراد أسرته؟ أو ذاك الشاب المحافظ الذي اغتصبت أخته أمام عينيه؟..
الجواب هو بالتأكيد "لا" فاللجوء إلى السلاح كان قدر محتوما على السوريين، وما كان بإمكان أحد إيقاف هذا المسار، بل كان الغريب هو تأخر حصوله كل تلك الأشهر التي لم يتوقف النظام فيها عن القتل والتنكيل والتدمير لحظة واحدة، هذا العنف المفرط والمنفلت أطلق تحريضا هائلا على العنف المضاد ما كان بإمكان بشري عدم الانجرار إليه، حتى لو كان من طينة الأنبياء ومن أتباع غاندي وممن تلقوا تربيتهم على يدي الأم تيريزا.
كادت مهمتي الأساسية في سوريا خلال عامين من عمر الثورة تنحصر في إبعاد شبح التسلح وتحذير الناس من هذه مصيدة حمل السلاح التي نصبها النظام، وتوضيح أبعادها..، لكن المهمة كانت تزداد صعوبة يوما بعد يوم مع ازدياد حزن الناس وبؤسهم وغضبهم، حتى غدت مستحيلة، وأصبحنا كمن يحفر في الصخر.
نعم، قام الكثيرون بالتحريض على العنف المضاد، واساء الكثيرون مهمة إدارته وتوجيهه، واستغله الكثيرون لأغراضهم الدنيئة البعيدة عن أغراض الثورة.. كل ذلك حصل، لكنه أبدا لم يكن سببا في قيامه، والنظام منفردا هو من يتحمل مسؤولية جر الناس إليه.
السؤال الثاني: على فرض أن الثوار استطاعوا ضبط النفس والتصرف بحكمة والمحافظة على سلمية الحراك، فهل كان من شأن ذلك إحراج النظام ودفعه لسلوك طريق الحل السياسي؟
الجواب أيضا هو "لا" لأن النظام كان سيلجأ إلى قتل السلميين وسيصر على استخدام كل أشكال العنف المفرط ضدهم لإجبارهم على إيجاد الوسيلة للدفاع عن أنفسهم وذويهم وبيوتهم.. وسيجترح كل الطرق والوسائل لتحقيق ذلك.. سيوفر السلاح وسيرتكب المجازر وسيخترع التنظيمات المتطرفة.. وسيسهل دخول واستيطان أخرى.. وسيؤجج الصراع الطائفي بكل الوسائل ومنها ارتكاب المجازر الطائفية لاستدعاء ردود الفعل الطائفية العنيفة..
ثم ماذا نقول عن نظام يزج بالمئات من قادة ومؤيدي العمل السلمي من أمثال عبد العزيز الخير في السجون، ويطلق منها في نفس الوقت الألوف من المجرمين وعتاة المتطرفين والإرهابيين؟ أولا يعد ذلك مؤشرا كافيا على نواياه وتوجهاته؟
السؤال الثالث: ماذا لو حافظت الثورة على سلميتها واستمر النظام بقمعها وممارسة العنف العاري مع الثوار وأهلهم وأماكن سكنهم.. فهل كان من شأن ذلك دفع المجتمع الدولي إلى التدخل لوضع حد لذلك؟ وكيف كان لذلك أن يحصل إذا كنا نرفض التدخل الخارجي أيضا؟ أفلا يعني ذلك إعطاء الرخصة للنظام للإيغال بدم السوريين حتى النهاية؟
الجواب أيضا هو "لا" فالدول تحكمها مصالحها أولا وثانيا وعاشرا.. وهي تتدخل فقط عندما يكون لها مصلحة في التدخل، وليس بناء على دعوات أو رغبات أحد، وبالتأكيد ليس بناء على معطيات إنسانية أو أخلاقية، ومصلحة أمريكا والغرب ومن خلفهم إسرائيل هي في عدم التدخل لصالح الثورة، واستمرار دائرة العنف لأسباب كثيرة ليس أولها إضعاف سوريا التي تقبع على حدود إسرائيل وإخراجها من معادلة القوة لسنوات، وليس آخرها استنزاف التنظيمات المتطرفة وايران وحزب الله وروسيا على الأراضي السورية.. ولا ننسى الرغبة الشديدة في عدم رؤية ولادة نظام ديمقراطي في سوريا يكون من أول إنجازاته جلب برلمانات وحكومات معادية للغرب بحكم المزاج الشعبي المعادي عموما للغرب، إن لأسباب إيديولوجية، أو لأسباب تتعلق بمواقفه المؤيدة لإسرائيل، أو لأسباب دينية لدى البعض..
نعم، فعلى الأرجح أن أوضاع المعارضة وعدم قدرتها على طرح بدائل مقنعة قد ساهم في تأخير فكرة التدخل ودفع الغرب إلى التريث.. ولكن ما كان لشيء من ذلك أن يحصل قبل أن تستثمر الدول الفاعلة الأزمة السورية إلى الحدود القصوى لتحقيق مصالحها.
رغم كل ما حصل ويحصل من أخطاء وكوارث نتيجة حمل السلاح، فإن ذلك لا يغير شيئا من حقيقة ساطعة مفادها أن القوة وحدها، سواء كانت قوة الداخل أو قوة الخارج، هي من يسقط هذا النظام الدموي أو يجبره على تقديم تنازلات جدية يرضى عنها الناس، أو من يدفعه إلى طاولة المفاوضات، ومن يعتقد بغير ذلك فهو واهم أو مغفل.. فإذا لم يتيقن النظام أنه ذاهب إلى نهايته إذا لم يقدم التنازلات فلن يقدمها، ولو لم يبق سوري واحد على قيد الحياة.. وقصة تسليم الكيماوي بمجرد تحرك بارجتين أمريكيتين مثال ساطع على ذلك.
نعم، ما كان يجب أن تتم مسألة التسلح والعسكرة بالطريقة التي تمت بها، وكان على الجميع التوافق عليها أولا والالتفاف حول رؤية استراتيجية لها، واحتضان الجيش الحر وتنظيمه ودعمه وتثقيفه وتقويم انحرافاته، حتى يصبح قوة تغيير ثورية حقيقية، ويستطيع تحقيق الإنجازات على الأرض، ويمنع مصادرة الثورة من قبل تنظيمات تكفيرية عدمية وقوى خارجية لا تشبه السوريين ولا تشبه ثورتهم في شيء..
إن طبيعة النظام وسلوكه هي من فرض ويفرض ويقرر شكل المعالجة وأسلوبها في هذا الصراع، وهي من يفرض على الجميع قبول منطق وفكرة العنف كسبيل للدخول مع النظام في عملية سياسية تنتهي بالتغيير المنشود..
إن من يرفض من العتبة المسار السلمي والحل الساسي لإخراج سوريا والسوريين مما هم فيه هو مجرم ويستحق الإدانة والمحاسبة، لكن بالمقابل فإن من يرفض بالمطلق لغة القوة والمسار العسكري لإزاحة النظام وتحقيق التغيير، هو إما شخص منفصل عن الواقع فاقد القدرة على الرؤية والفهم والتحليل ويستحق الشفقة، أو هو شخص منافق مزاود يستحق الاحتقار والإدانة.
على الجميع دائما التمسك بالمسار السياسي والجنوح إليه عندما يتطلب الأمر، لكن القصة تكمن في كيفية الوصول إليه، وبشكل آخر كيف يمكن إقناع نظام بمواصفات النظام السوري بالذهاب إلى حل سياسي سينتهي برحيله؟ كيف يمكن إقناع نظام تعجز قواميس اللغة عن وصف همجيته وقذارته، وتتربع على قمته عصابة من اللصوص ترى أن مصالحها هي أهم من كل دماء السوريين وحضارتهم ومستقبلهم، أن عليه تسليم السلطة لآخرين؟ لا شيء طبعا غير القوة.
اتهام الآخرين لا يفيد، ورمي المسؤولية لا يفيد، والهروب من الحقيقة لا يفيد، وسوريا أصبحت كما أصبح السوريون على كم من البؤس تنأى بحمله الجبال، وهم يستحقون شيئا من التنازل والتضحية والمرونة لبناء عمل مشترك مع الآخرين قد يعيد بعض الأمل والرجاء إلى نفوسهم المتعبة.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية