أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

المقهى ... مضر عدس


وصلت إلى المقهى في الصباح كعادتي ، ارتميت على منضدتي أسفل النافذة الوحيدة في المقهى الشعبي في أحد الأحياء القديمة ، لا أذكر يوماً أني رأيت عاملاً جديداً في المقهى ، وجوهٌ لم تتغير و زوايا أكلتها السنوات ، مكتبةٌ تحتوي على مجموعة من الكتب المهترئة والتي يعتليها غبار من الذكريات ، مقاعد لا يطيب لأيّ كان الجلوس عليها ، أما بالنسبة لروادها ؛ فلا يطيب لنا إلا الجلوس عليها ، أرضية خشبية و طبعا وككل شيء في المقهى هناك خلل ما ؛ ففي إحدى ممراتها تخرج زاوية من الألواح الخشبية ، لا يمر يوم إلا و أسمع صريخاً بين أبو هائل المسؤول عن المقهى و أحد الزبائن الجدد عن سبب إهماله لهذه الأرضية و طبعاً نبادله نحن بالابتسامة ، لا أدري لماذا أعشق هذا المكان كتبه ليست للقراءة كما أظن و بلا سبب ، مقاهِ كثيرة و قريبة تقدم قهوة أفضل ، وسيعشق جسدي المكان الجديد حين أعتاد الجلوس على مقعد طبيعي ، بصراحة لم أفكر يوماً أن أغير مكاني المعتاد ، و في كل صباح أدخل و ألقي التحية أجد المكان يعج بنفس الوجوه و نفس القصص و نفس الهموم ، لا شيء يتغير إلى ما صنعه العمر في وجوهنا ، ما إن أدخل حتى يستقبلني صوتٌ لتحريك مقعد أو منضدة أو طلب لزبون ، يرفع زائر جديد صوته احتجاج بسبب انزعاجه من سوء الخدمة أو تعثره باللوح المهترئ ، اعتاد الجميع هذا الشيء كما يعتاد المريض الوهن ، أطلب فنجان قهوتي الصباحية و لا يكاد جسدي أن يستقر على المقعد إلا و سعدون قد وضع الفنجان الذي لا أشربه إلا مراً ، اليوم يوم استثنائي ؛ فأنا أنتظر صديقي العزيز نائل و الذي لم يزر المقهى منذ سنة ، ارتشفت رشفة طويلة مصدراً صوتاً مزعجاً ، وأمسكت بيدي اليسرى لفافة التبغ و أشعلتها ، متجاهلاً نظرات استياءِ من صديقتي ليلى في المنضدة المجاورة والتي اعتادت صوتي و اعتدت نظراتها ، أخذت النفس الأول مغمضاً عينيّ ووضعتها على المنفضة ، أمسكت الجريدة و بدأت أقرأ منها ، كان الجو هادئاً بالنسبة لي ؛ فأصوات المكان أصبحت جزءاً من تكويني ، كانت افتتاحيتها تتحدث عن دواء انتشر في الصيدليات و أن وزارة الصحة حذرت منه .
_ يا إلهي ما هذا ، اللهم عافينا (قلتها بصوت مرتفع) . 
قاطعني نائل معاتبا .... 
_ ألا تمل من قراءة الجرائد ، أضع وقتك بما يفيد ( قالها ضاحكا ) 
هذا هو نائل ، يسخر من أي أحد لا يعرف كيف يضيع وقته من دون أيّ جنيَ للأموال . 
_ أحمد الله على سلامتك ، الناس تبدأ بالسلام و من ثم تتكلم ... أعطني قبلة أم أصبحت خواجا لا تقبل إلا السيدات
_ خواجا .... هاهاهاهاهاها .. نعم خواجا لمَ لا .
_ أنهي مكالمات عملك الصباحية ريثما أنهي أنا إضاعة وقتي .
أخرج هاتفه النقال و قام بطلب أحدهم . 
_ سأنهي حديثي و سأتفرغ لك يا عزيزي . 
_ حسنا يا فهمان . 
أكملت القراءة و لكن كانت ذكرياتي مع نائل تقاطعني ، عدت إلى الوراء قبل أن نكبر و تكبر همومنا ، كيف كنا لا نفارق بعضنا البعض ، عدت إلى اليوم الذي قمت بتوديعه ، كان شاباً صغيراً و طموحاً ، كانت أحلامه كبيرة كغيره من شباب جيلنا ، أكمل دراسته و سافر بعيداً ، لكنه تغير ... غيرته الغربة كثيراً ، ما يزعجني بأنه أصبح لا يطيق الجلوس على مقعدنا لدقائق ، و أصبحت الضوضاء مصدراً لإزعاجه ، كان لا يحب الدراسة إلا أسفل هذه النافذة ، و لا يكتب رسائل الغرام إلا بأصوات الصراخ ، رحم الله أباك يا نائل حين كان لا يغادر شوارع باريس .
_ الله يرحمك ( قلتها بصوت عالي )
_ ماذا قلت ؟ .. نعم سنوقع ولكن لن أستطيع العودة قبل عشرة أيام .. قلي ماذا قلت ؟ 
_ لا شيء .. أكمل أكمل 
_ إلى اللقاء .. نعم ألا تفهم .. حسنا سأفكر ... سلام ... إذاً قل لي ، ماذا تقرأ ؟ 
_ لا شيء .. شيء سخيف... أمور لا تهمك يا عزيزي ، فأنت أكبر من أن تحتسي دواء وطني . 
_إذا كان الدواء الأجنبي أحسن فلا يعني بأني لا أهتم لأهل جلدتي ... تكلم 
_أنت تعرف عن ماذا أقرأ .. لمَ السؤال الغبي ؟؟ .. هااا
_ لأفتح الحديث معك ... أنت لا تتغير عصبي كعادتك 
_ سامحك الله ... آآآآخ 
_ ما بك ؟ 
_ سيقفل هذا المقهى ... شهر واحد و سأكون كالمشرد من دون منزل 
_وما المزعج !! انظر كم هو مقرف ؟؟ ضوضاء مزعجة ، أثاث مهترئ ، أرضية لا تصلح ليسير عليها الحمير 
_حمير ، هاهاهاها أحمق 
_نعم حمير ، انظر إلى المكتبة كم هي مقرفة ، تباً لهم ، حان الوقت ليأتي من يجدد هذا المكان ، و خلال هذه الفترة جد لك مكاناً آخر 
_ مكان آخر .. مكان آآآآآخر ... أنت ما همك ، نسيت كل الذكريات التي تصلك بهذا المكان ، أما أنا فلا ... هذا هو بيتي الثاني 
_في كل سنة تقريباً يأتي أحد و يقول سنهدم المكان و نبدله .. لا تقلق 
_لا تقلق .. ( قلتها باستهزاء ) و ما همك أنت .. 
نظرت إلى اللفافة لعلها تمتص غضبي .
_ تبا كالعادة أنسى لفافة التبغ مشتعلة لتحترق وحيدة .. مثلك أيها المطلق وحيدٌ تحترق ( قلتها بمكر و أنا أنظر لعينيه من طرف عينيّ ) 
أشعلت لفافة جديدة و بدأت أدخنها متجاهلاً الحديث معه ... فحديثه يرفع الضغط 
_مطلق .. ألم أخبرك أن لا تتكلم بالموضوع بهذه الطريقة .. أحمق ... موضوع الطلاق لا تذكره باستهزاء فهو خط أحمر 
_ هاهاها ... خط أحمر شيء جميل ... تتزوج و تهمل بنت العالم ...
بصراحة لم تكن كلمة مطلق غير مقصودة .. فقد نطقتها متعمداً لأزعجه ، فهو دائما يأتي و يتكلم بتعالٍ عن كل ما يخصنا ، عشرة أيام و يسافر ليزورنا بعد عام فيعيد الكرّة ، حان دوري لأزعجه و لكن لا أعرف موضوعاً آخر قد يثيره كطلاقه ... نعم قولوا حقير و لكن ماذا أقول .. 
_ الخائنة خائنة .... و أنت تعرف أكثر من غيرك كيف أني تحملتها أياماً و شهور
_انسى الموضوع .. ما أخبار محمد ابن عمك خلدون 
_لا تنهي الموضوع قبل أن أنهيه أنا 
_هل تزوج ؟ 
و فجأة وقف نائل و قام بضربي بيده اليسرى ، في البداية كنت متردداً . 
_عيب ... نحن في مكان عام و كل الذين هنا يعرفونني ... 
ولكن نائل هذه المرة و على عكس عادته أمسكني و قام برمي بعيداً عن المنضدة ، و هنا ... بدأ العراك ، وقفت و ابتسمت و قمت بدفعه ، بصراحة لم يفاجئني رد نائل فهو كالثور يهوج اذا رأى لوناً مثيراً له ، و لكن من فاجأني هم الزبائن ، لم يحرك أحد ساكن ، و كأنهم جاؤوا ليشاهدوا بطولة العالم في الملاكمة أو كأن ذبابتين تشاجرتا على نقطة من العسل في كوكب آخر 
_سأحطم رأسك يا نتن 
و من دون أن أنتبه جلس أحدهم على منضدتنا ، كان طويلا أشقرَ، وجهٌ أراهُ للمرة الأولى و منظره لا يشير إلى أنه من أهل البلد ، توقف نائل عن الهيجان و أفلت يدي و نظر إلي مستغرباً ، و كأنه يقول لي من هذا الأحمق 
و من دون أن أفكر أمسكت يد الغريب اليمنى و هممت بالصراخ ... 
_من تظن نفسك !؟ .. هااا ... إخوة و تشاجرنا ، أتخال نفسك ستأخذ مكان أخي و حبيبي عمر ؟؟!! .. هااا 
و قبل أن يرفع نائل يده قاطعنا صوت أبو هائل و حال دون أن يتطور الشجار بيننا و بينه 
_ عيب يا شباب عيب 
وفي دقائق عاد كل شيء لطبيعته
_ عمر .. أعدك بأنني أنا من سيشتري هذا المكان و أنت من سيطوره .

(280)    هل أعجبتك المقالة (379)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي