أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

لاتجعلوا الائتلاف الوطني لعنةً على سوريا وثورتها

"أهم شي.. أوعكُن تساووا مجلس أو ائتلاف وطني".

هذه واحدةٌ من النصائح الواردة على صفحةٍ أبدَعها السوريون بعنوان (وجّه نصيحةً لثوار أوكرانيا).

معنى الرسالة ومغزاها واضحٌ بطبيعة الحال حتى لو كانت باللهجة العامية. والصفحةُ بمجملها تحملُ دلالات على إبداع أهل الثورة السورية، وعلى وعيٍ سياسي متصاعد، ممزوجٍ بروح الفكاهة والدعابة، يزيد من قناعة المرء بإصرار الشعب السوري على الحياة، وبقدرته على انتزاع الابتسامة من أنياب الألم والمعاناة.

لاتوجد لدى غالبية السوريين قناعةٌ بالائتلاف الوطني وأدائه، لكن هذا لايتضارب مع واقعية كثيرٍ منهم حين يتعلق الأمر بوجود الائتلاف ودوره، حتى الآن على الأقل.
غير أن هذه الواقعية لايجب أن تكون بمثابة مُخدﱢرٍ يعتقد الائتلاف أن السوريين سيستمرون في تعاطيه إلى مالا نهاية. بل المفترضُ فيها أن تكون دافعاً لمزيدٍ من الشعور بالمسؤلية من قبل أعضائه جميعاً، بقيادته ومكوناته وشخصياته على جميع المستويات.
لاتوجد ملائكةٌ تمشي على الأرض في هذه الدنيا، فلا تخطىء في حسابٍ أو تحتاج لمراجعة موقف أو إعادة النظر في رؤيةٍ مُحددة أو سياسةٍ بعينها. لايوجد هذا في العالم من حولنا، ولا في منطقتنا العربية، ولا في سوريا، ولا في الائتلاف الوطني بالتأكيد. يسري هذا على الأفراد والجماعات والشعوب كما يسري على الدول والحكومات. فنحن بشكلٍ عام نعيش في عالمٍ معقّد يتميز بمتغيراته المتسارعة التي لايكاد يستطيع أحدٌ ملاحقتَها وأخذها بعين الاعتبار في حساباته بشكلٍ كامل. ونحن كسوريين تحديداً نعيش ظاهرةً ربما كان تكرارها في التاريخ ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، بالصورة التي نراها، من الأمور النادرة في حياة البشر.

من الطبيعي إذاً لأي جماعة أو فرد أو هيئةٍ أن تُخطىء أو يخطىء في الحسابات أو في السياسات أو في المواقف، أو في ذلك كله. وهذا يصدقُ على الائتلاف في زمننا الراهن كما لايصدق على جهةٍ أخرى مسؤولةٍ أمام شعبها وبلادها.

هذه حقائقُ تعرفها جميع الأطراف، ومن مصلحة السوريين جميعاً أن يبني عليها أصحابُ العلاقة داخل الائتلاف، وخارجه في أوساط الثورة والمعارضة، أساساً لنقلةٍ جديدة في عمل الائتلاف خلال المرحلة القادمة.

هذا ليس واجباً سياسياً وأخلاقياً فقط، وإنما هو أيضاً دليلُ نضجٍ سياسيٍ وثقافيٍ للسوريين، خاصةً لمن منهم تصدى لمواقع المسؤولية.

لامجال هنا لتجنب المراجعات المستمرة وللبحث عن الأخطاء وتصحيحها بأي شكل من الأشكال، ولامعنى للهروب من تأكيد معاني الشفافية والمحاسبة والمشاركة بأي داعٍ أو تحت أي شعار. لكن هذا لايعني أيضاً أن يغرق الائتلاف فيما هو أشبه بـ (حوار طرشان) حول ماجرى سابقاً إلى نهاية الدهر.

بكلام آخر. ليست المشكلة أن نخطىء في الحسابات أو السياسات أو المواقف. وإنما تكمن المشكلة الكبرى في الإصرار على تجنب أي مراجعات، والوقوع في عقلية المكابرة والعناد التي توحي بلسان الحال بأننا قومٌ لا نخطىء، بغض النظر عن أي شعارات نُطلقها بلسان المقال. ذلك أن الوقوع في هذا الفخ هو الخطوة الأولى في سلسةٍ من الأخطاء ليس لها نهاية. وهذا قانونٌ من قوانين الاجتماع البشري يسري علينا كما يسري على العالم أجمع.

لاهروب من الماضي ودروسه للجميع إذاً. لكن الغرق في هذا الماضي إلى استشهادِ آخر سوري مرفوضٌ أيضاً.

اجتهدَ البعضُ في الائتلاف، وقرر حضور جنيف.

واجتهدَ البعضُ الآخر وقرر مقاطعة جنيف.

بنى الطرفان اجتهادهما، علنياً على الأقل، على نفس القاعدة: أن القرار المُتخذ كان خطوةً على طريقٍ طويل لمحاولة تحقيق أهداف الثورة.

لامجال هنا للخوض في النيات، فهذا ترفٌ لاتحتمله المرحلة الراهنة، ولايحتمله بالتأكيد المستقبل القادم. خاصةً في ظل المشهد الذي رآه الجميع خلال جولتَي جنيف، وفي ظل الواقع الذي نتج عنهما. وهو واقعٌ يقول، بواقعيةٍ أيضاً، إن وفد الائتلاف لم يُقدِم على (التنازلات) التي كان يخشى فريقٌ منها. لكنه في نفس الوقت لم يُحقق تلك (الانتصارات) التي لايزال فريقٌ آخر يتحدث عنها.

ثمة حاجةٌ لدرجةٍ عاليةٍ جداً من الواقعية المسؤولة في هذا المقام. وهي تنبعُ من قراءةٍ دقيقةٍ لما حصلَ كما حصل، وليس كما توقع البعض حصوله أو تمنى البعضُ الآخر حصوله.

لامجال هنا لإصرار أعضاء الائتلاف على الحياة في الأوهام أو التفكير الرغائبي أو التفسيرات الخاصة للحدث. فهذا أيضاً نوعٌ آخر من الترف السياسي لايحتمله المقام.

نعلم أن هناك تعقيدات سياسية ونفسية وعملية أمام المطلوب من الائتلاف الآن، وهو ببساطةٍ ووضوح حدٌ أدنى من وِحدة الصف والتنسيق الشامل داخلياً أولاً، ثم مع كل أطراف الخارج من السوريين وغير السوريين. لكننا لانؤمن، في نفس الوقت أن هذه المهمة مستحيلة.

ومسؤولية القيادة في هذا المجال هي أكبر من مسؤولية الآخرين، تحديداً لأنها في موقع القيادة.

والوضع السوري لايحتمل على الإطلاق أن يدخل الائتلاف في نفق المناورات ومحاولات كسر العظم من قبل أي طرفٍ على طرفٍ آخر.

من هنا، قد يكون مطلوباً زيادة جرعة الرقابة الشعبية الخارجية على الائتلاف بأشكال مختلفة. ليس فقط من قبل الإعلاميين والمثقفين والساسة من خارج الائتلاف، وإنما أيضاً من السوريين جميعاً، لأنهم أصحاب الحق قبل غيرهم في طرح الأسئلة والحصول على الإجابات.

فالإنسان العادي هو أول من يتأثر بالسلبيات والآلام والكوارث التي تنجم عن الخطأ في الحسابات وفي السياسات. من هنا، يبقى هو صاحب الحق الأول في أن يكون له رأي في الموضوع، وفي أن تُفتح له مداخل وأبواب طرح ذلك الرأي عبر كل القنوات والمنابر الإعلامية والسياسية والثقافية. فالإنسان الذي لايُمنح ذلك الحق لن يشعر يوماً بالانتماء والولاء الحقيقيين مهما صرّح وتغنّى بعكسِ ذلك. لأنه سيدرك ببساطةٍ في أوقات الشدّة بأنه مدعوٌ ليدفع ثمن خطأٍ لم يكن سبباً فيه. وبأن وجوده في بلده إنما يُعتبر (تكملة عدد) وليس وجودَ مواطنةٍ حقيقية بكل ماتقتضيه من حقوقٍ وواجبات.

"السياسة أهم بكثير من أن تُترك للساسة وحدهم".

ليس من الواقعية الحديثُ اليومَ في جسمٍ سياسي جديد يمثل الثورة السورية. لكن المقولة السابقة المعروفة في عالم السياسة تفرض على كل من يهمه حاضر سوريا ومستقبلها الابتعادَ عن السلبية تجاه هذا (الأمر الواقع) الذي يُسمى الائتلاف الوطني، وتجنبَ الزهد في شؤونه، ولو كان ذلك بداعي الحياد من جهة، أو فقدان الأمل من جهةٍ أخرى.

ولن تعدمَ ثورةٌ أظهرت إبداعَ أهلها في كثيرٍ من المجالات القدرةَ على ابتكار إطارٍ لرقابةٍ شعبيةٍ عامة على الائتلاف تُصحح مساره، ليؤدي دوره المطلوب ولا يُصبح لعنةً عليها في نهاية المطاف.

(117)    هل أعجبتك المقالة (131)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي