أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

أبوخالد السوري: الجيل الأول في مواجهة الانحراف الأخير

أبو خالد

أثارت عملية اغتيال الرمز الجهادي المعروف "أبو خالد السوري" يوم 23 شباط 2014م، موجة هي الأعنف في بركان النقاشات والخلافات داخل السلفية الجهادية والمشتعل منذ شهور، ما بين "الجمهور" و"تنظيم دولة العراق والشام" المتهم بتنفيذ عملية الاغتيال والذي نفى مسؤوليته عنها واتهم بها قادة الجبهة الإسلامية التي "انشقّ عنها" حسب تعبير أنصار التنظيم.

ولم يتأخر اتهام تنظيم الدولة بتنفيذ عملية الاغتيال عن خبر العملية نفسه، الذي نقله قادة أحرار الشام والجبهة الإسلامية مقترناً باتهام التنظيم منذ البداية، وتبعهم منظرون وشرعيون مثل الشيخ عبدالعزيز الطريفي والمحيسني والقنيبي، باعتباره أحد مؤسسي الأحرار –رغم كون رمزيته وتاريخه الجهادي أسبق من الأحرار وأكثر حضوراً في التعامل معه وتداول اسمه- وباعتبار الحرب القائمة منذ خمسين يوماً مع التنظيم، وباعتبار أن التنظيم وحده من يمتلك عناصره عقيدة تسمح بتنفيذ عمليات "انتحارية" ضد جماعات إسلامية مغايرة، إضافة إلى تلقي "أبو خالد السوري" تهديدات باغتياله في وقت سابق كما أعلن قادة الجبهة الإسلامية، مع وضوح استهدافه ضمن اجتماع مع قياديين في أحرار الشام كان منهم "أبو يزن الشامي" الذي نقل تفاصيل عملية الاغتيال، ولكن الأمر لم يقتصر على الاتهام بل تعدّاه إلى التهديد الصريح والقطعي مع بيان قائد جبهة النصرة بعد يوم واحد من الاغتيال والمعنون بـ (ليتك رثيتني).

يتناول المقال شخصية "أبو خالد السوري" وموقعها في التيار السلفي الجهادي وتداعيات الاغتيال.
جذور الجهاد السوري

تعود جذور التجربة الجهادية لـ "أبو خالد السوري" أو "محمد بهايا" وهو من مواليد مدينة حلب، إلى صراع الفرع المسلّح (والمنشق) للإخوان المسلمين "الطليعة المقاتلة" مع نظام حافظ الأسد في ثمانينيات القرن السابق، حيث كان أبو خالد السوري على صلة بالطليعة وقادتها، ومدرّباً ومشاركاً في عملياتها، قبل أن تنتهي الأحداث بمجزرة حماة وحملة الاعتقالات والتصفية الموسعة على كل من يشتبه بعلاقته بالطليعة والإخوان المسلمين وهجرة من استطاع الهجرة إلى خارج سوريا.

تمثل تجربة الطليعة المقاتلة حتى الآن الجذور المحلية للجهاد السوري، والحاضرة رمزيّاً لدى المجموعات المحلية التي تتبنى خطاب الجهاد، وبخاصة لدى المجموعات السلفية المحلية الأبعد عن مدرسة الإخوان.

عايش أبو خالد نشأة الجهاد العالمي وشارك في هذه النشأة والتوسع مع الجيل الأول للجهاديين مثل عبدالله عزام وأسامة بن لادن وأيمن الظواهري، وكان عضواً في مجلس شورى خراسان، الذي مثل أعلى سلطة استشارية للقاعدة والجهاد العالمي، وكان من المقربين لأسامة بن لادن وأيمن الظواهري، دون أن ينتمي تنظيميّاً أو بيعةً لتنظيم القاعدة، ودون أن يتعارض ذلك مع مشاركته كوسيط ومخطط في عمليات القاعدة وحروبها في أفغانستان والعراق كشخصية جهادية مستقلة لها احترامها وتاريخها، أسوة برفيقه الأقرب له –على المستوى الفكري والشخصي- ونعني المنظر الاستراتيجي الأهم للجهاد العالمي أبو مصعب السوري، الذي طرح فكرة تعدد فصائل المقاومة ولا مركزية القيادة، والذي وصف "أبو خالد" في كتابة دعوة المقاومة الإسلامية بالقول: 

"أخي وصديقي ورفيق دربي ومساري الصابر المصابر المجاهد الشيخ أبو خالد السوري حفظه الله وأمتعنا والأمة به وبأمثاله".

يمثل أبو مصعب السوري وأبو خالد السوري وأبو بصير الطرطوسي، نماذج متشابهة من حيث البداية مع تنظيم الطليعة المقاتلة، ثم الانتقال إلى الجهاد العالمي، فبينما يحضر أبو مصعب السوري كمنظر استراتيجي وأبو بصير الطرطوسي كشرعي وأبو خالد السوري كمنسّق عملياتي، فإن الثلاثة كان لهم مواقف نقدية من التيارات الأكثر غلوّاً ضمن الحركات الجهادية ومن العمليات غير محسوبة النتائج أو التي تتضمن تجاوزات في الأرواح، وإن كان أبو بصير بلغ بانتقاده ومراجعاته الحد الأقصى الذي أثر على مرجعيته أو الاعتراف به لدى الكثيرين داخل التيار السلفي الجهادي، بينما مثل أبو مصعب التنظير الأكثر نضجاً وتركيباً في استراتيجيات المقاومة والتوسع وبناء "الشخصية الجهادية" المتزنة والمثقفة مقارنة بما وصلت إليه هذه الشخصية في التجربة الجزائرية، أما أبو خالد فلم يكن له إنتاج نقدي معلن بحكم كونه منسّقاً عمليّاتيّاً لا منظّراً، ولكن الخط الذي اتبعه ضمن التيار السلفي الجهادي وما نُقل عن نقاشاته ونصائحه لقادة التيار ينتمي إلى الرؤية الأكثر اعتدالاً فيه، هذه السمة المعتدلة –نسبيّاً- ميزت الحضور السوري ضمن التيار السلفي الجهادي في الجيل الأول، وربما تكون أثرت على تمدد وتوسع هذا الحضور في الجيل الثاني والثالث الذي واجه –مع تغييب المنظرين الكبار- ملاحقات وظروفاً قمعية أشرس داخليّاً وخارجيّاً ساعدت على ظهور ردة الفعل الأكثر تطرّفاً، والتي انتهت بتنظيم دولة العراق والشام الأكثر انفصالاً وخصومةً مع الجيل الأول المؤسس.

الثورة السورية فرصة لتعدد مسارات الجهاد
شارك أبو خالد السوري (الذي أصبح اسمه في سوريا "أبو عمير الشامي") في تأسيس الحركة السلفية الأهم والأوسع انتشاراً والأكثر تمثيلاً لما يمكن أن نسميه "السلفية الوطنية" في سوريا، وهي حركة أحرار الشام الإسلامية، التي تمثل الاتجاه الجهادي المحلّي متعدد الروافد من تجربة الطليعة المقاتلة والسلفية الحركية القطبية إلى عبدالله عزام إلى الجهاد العالمي بصورته القاعدية، وإن كان حضور الأخيرة أقلّ ظهوراً من أن تكون الحركة تابعة للقاعدة تنظيميّاً أو فكريّاً مثل جبهة النصرة.

قدمت الثورة السورية مسارات متعددة للخطاب الجهادي، وإن كان يغلب عليها الطابع السلفي عامة بحكم أن التيارات الإسلامية الأخرى لم تنجح في تطوير خطاب جهاديّ، حيث مثلت أحرار الشام السلفية الجهادية المحلية، بينما مثلت جبهة النصرة اندماج البعدين المحلي والعالمي (حسب تعبير الأستاذ حسن أبو هنية) كولادة ثالثة للقاعدة، بينما مثل تنظيم دولة العراق والشام تيار ما بعد القاعدة والذي لا يعترف بمرجعيّتها التنظيمية أو الشرعية، إضافة لمجموعات جهادية من المهاجرين حافظت على استقلاليتها التنظيمية دون أن تستقلّ عن انتمائها الفكري للسلفية الجهادية ومرجعيتها الرمزية في الجهاد العالمي، إضافةً للمجموعات المقاتلة التي تنتمي إلى السلفية الحركية، أو الأقرب للسلفية العلمية، أو التي دخلت التسلّف مع الثورة وطبيعة التحالفات الميدانية والايديولوجية.

ولئن كان من الخطأ تهميش هذه الفروقات لدى التعامل مع المجموعات السلفية الجهادية في الواقع السوري، فإن من الخطأ كذلك اعتبارها فروقات جذرية تفترض خصومة أو قطيعة بينها، حيث تفرض ساحة المعركة – والايديولوجيا- التواصل والتنسيق المستمر، إضافةً للإطار الايديولوجي الجامع مقابل التيارات الأبعد من حيث الايديولوجيا أو الارتباط الإقليمي.

مثّلَ أبو خالد السوري، باعتباره من الجيل الأول المؤسس للسلفية الجهادية، وباعتباره "رسول" الظواهري ومستشاره، عدا عما قدمته شخصيته الأليفة والمرنة والحريصة على الجمع، مرجعية رمزية مشتركة لدى المجموعات الجهادية المختلفة، عدا عما مثّله من مرجعية قضائية مقبولة لدى الجميع (عدا تنظيم الدولة بطبيعة الحال).

هذا الاشتراك في رمزية "أبو خالد السوري" والعلاقة معه، ظهر جليّاً لدى اغتياله، حيث أكد أبو عبدالله الحموي أن "أبو خالد" لم يكن ينتمي إلى أي جهة عدا كونه مؤسساً لأحرار الشام، في نفي لعلاقته بتنظيم القاعدة وتأكيد على موقعه في أحرار الشام،و أصدرت معظم المجموعات الإسلامية المنتمية إلى الجبهة الإسلامية أو غيرها بيانات نعي للأب الرؤوف والقائد المجاهد ذي التاريخ الطويل في الجهاد، بينما أكد الجولاني أنه:
"لم يكن يوماً من الأيام من الأحرار لا ولا كان من الجبهة بل كان لجميع المجاهدين وعامتهم رجل للحلول لا رجل للصدام".

في حين نعاه الكثير من أنصار تنظيم دولة العراق والشام باعتباره الشيخ المجاهد والذي اغتالته الجبهة الإسلامية لأنه انشقّ عنها واعتزل قتال "الدولة الإسلامية".

موقف السوري من البغدادي
أعلن عن دولة العراق والشام في 9 نيسان 2013م، كدمج ما بين دولة العراق الإسلامية وجبهة النصرة، الإعلان الذي رفضه الجولاني في 10 نيسان وأعلن بيعته للظواهري، الذي أعلن –أو طلب- في كلمة صوتية في 9 حزيران حلّ دولة العراق والشام وعودة دولة العراق إلى العراق وبقاء جبهة النصرة كممثل شرعي ووحيد للقاعدة في سوريا، الإعلان الذي لم تستجب له الدولة بطبيعة الحال، وظهر اسم "أبو خالد السوري" في الأوساط الجهادية كرسول الظواهري للتحكيم وحل الخلاف ما بين جبهة النصرة ودولة العراق، التي استمر الاحتقان والاشتباكات الجزئية ما بينها وبين الفصائل الإسلامية والجيش الحر والمجتمع المحلي وصولاً حتى انفجاره في 3 كانون الثاني 2014م.

في 8 كانون الثاني 2014م في حمى المعارك ما بين تنظيم الدولة وبين جيش المجاهدين والجبهة الإسلامية وجبهة النصرة وجبهة ثوار سوريا (لا غرو أن مشاركتهم كانت بنسب متفاوتة)، أعلن عن "هدنة" ما بين حركة أحرار الشام الإسلامية وتنظيم دولة العراق والشام، تسمح للتنظيم بأن يمر رتله من مطار الجرّاح العسكري بريف حلب دون أن يتعرض له مقاتلو أحرار الشام المرابطون على المطار، ويتعهد التنظيم بدوره بعد التعرض لهؤلاء المقاتلين، وكان الموقع من طرف التنظيم عمر الشيشاني ومن طرف أحرار الشام "أبوخالد السوري"، وهي من المرات القليلة التي ظهر فيها اسم أبو خالد كقيادي في الحركة على الإعلام.
أثار هذا الاتفاق ضجة وتشكيكاً حول موقف أحرار الشام –والجبهة الإسلامية- المتناقض وغير الموحد من قتال تنظيم الدولة، لكن الأحرار علّلوا ذلك بأنه لم يكن يمكن مواجهة رتل التنظيم بحكم قلة عدد المقاتلين، وأن الاتفاق كان حفاظاً على جبهة مطار الجراح بدلاً من أن يستولي عليها النظام إن حصل اشتباك مع التنظيم.
في 14 كانون الثاني أصدر "أبو خالد السوري" كلمة "حول الأحداث الأخيرة في الشام" والمقصود بالأحداث القتال مع تنظيم الدولة، (وكان قد سبقه بيان مكتوب أخفّ لهجةً كتوضيح لاعتداءات تنظيم الدولة ونصيحة له بالتوبة والنزول على شرع الله)، تكلّم فيها أبو خالد بقسوة صريحة وقطيعة جذرية عن اعتداءات التنظيم على المقاتلين والإعلاميين وتطرفه في التكفير واستباحة الدم وكونه "يسعى لإفساد الجهاد بالشام كما أفسده بالعراق"، مؤكّداً أن ذلك ما لن يسمح له أهل الشام أن يحدث، وأشار إلى أن سكوت القاعدة الأم عنه هو ما سمح للتنظيم أن يتوسع، وأن الظواهري هو المسؤول عن ذلك وعليه أن يتدخل ويعلن البراءة من التنظيم وأفعاله: "اقطع العضو المصاب حتى لا يتلف الجسد كله يا شيخنا" ، النداء الذي استجاب له الظواهري في 5 شباط 2014م حين أعلنت القيادة العامة لقاعدة الجهاد أن لا علاقة تنظيمية بينها وبين تنظيم الدولة ، وعدم مسؤولية القاعدة عن أفعالها.

ويتناقل أنصار التنظيم أن "أبو خالد" انتقد القتال مع تنظيم الدولة، وكان ينوي الانشقاق عن الجبهة الإسلامية بسبب حربها للتنظيم وبسبب "ارتباطاتها الإقليمية"، الأمر الذي لم يعلنه أبو خالد، والذي قد يصطدم بموقفه الرافض والجذري من التنظيم.

ماذا بعد؟
سبق لتنظيم الدولة تنفيذ عمليات اغتيال عديدة لقادة في الجبهة الإسلامية وجبهة النصرة، ولكنها المرة الأولى التي يصل فيها الاغتيال إلى أحد قيادات الجيل الأول للتيار السلفي الجهادي، ما مثّل تهديداً عامّاً –وإهانة عامة- لمجمل التيار القريب من القاعدة قبل البعيد عنه، ما يجعل التخوف من امتداد عمليات الاغتيال إلى القيادات الأعلى أو الأكثر حساسية عسكرياً بالنسبة للفصائل أكثر إلحاحاً.

ولا تقتصر كلمة الجولاني الأخيرة "ليتك رثيتني" على إمهال تنظيم الدولة خمسة أيام فقط للقبول بالتحكيم المستقلّ والتهديد باستئصالها إن لم تفعل، بل تحمل خطاباً "متمايزاً" عن الجبهة الإسلامية، الجهة الأقرب والأكثر تنسيقاً معها، ليس من خلال تأكيد انتماء أبو خالد السوري إلى الجميع لا إلى الأحرار وحدهم فحسب، وإنما من خلال النص على كفر وردة الائتلاف والأركان، الاتهامات التي كانت من اختصاص تنظيم الدولة نفسه والتي تستتبع كفر وردة من يتعامل مع هذه الهيئات، عدا عن التهديد المستقلّ بمعزل عن الجبهة الإسلامية، ولا يعني هذا حدوث خصومة أو قطيعة بالضرورة، بقدر ما أنه تأكيد من الجبهة على تمايزها الايديولوجي والميداني عن أي فصيل آخر قد تتعاون معه، وأن قتالها للتنظيم لا يعني تصالحها مع النظام الإقليمي والدولي، أو سكوتها عن أي مخطط "علماني" لا يرضى بالمشروع الإسلامي.

ويبدو أن الجبهة الإسلامية حريصة أكثر على استئصال التنظيم كليّاً بعد دوره في إضعاف جبهاتها مع النظام في ريف حلب، ما جعلها بين فكي كماشة، عدا عن التخوف من استمرار اغتيال قياداتها، وما قد يتيحه قتال التنظيم من تفكيك الجزء الأكثر ظهوراً من "الحجة الإرهابية" التي تنغلق بها بوابات الدعم، مع إدراك الجبهة أنها حجة قابلة للاستعمال والتداول حتى لو لم يوجد التنظيم ولم توجد الجبهة، وإن كانت هذه الإرادة الذاتية تصطدم بالقدراة الميدانية الموضوعية، مع استمرار الضخ الشيعي الإقليمي نحو سوريا وتكثيف استخدام الطيران الحربي والبراميل المتفجرة واستعداد التنظيم لتنفيذ مئات العمليات الانتحارية لإضعاف الجبهة الإسلامية واغتيال قادتها، وتركيزه الغريب على مناطق قتالها للنظام ليستهدفها من الخلف.

بينما تعيش السلفية الجهادية العالمية مأزقها الصعب، بعدما وجدت في الحالة السورية إمكانية توسعها الأفضل، فظهر في هذه الحالة نفسها احتقانها وخلافاتها الداخلية الأكثر جذرية ودموية، فيما يبدو أن مجمل التيار حسم خياره تجاه البراءة من تنظيم الدولة، الحسم الذي ازدادت حدته مع عملية اغتيال "أبو خالد السوري". 

ولا يبدو لدى المجتمع الدولي سعيُ لتغيير حالة التفوق العسكري للنظام وحلفائه، والتي تضمن له استمرار "حرب الإرهابيين" وديمومة الفوضى في المحرقة السورية، التي لم توفر له بديلاً قادراً على الحلول محل النظام في قمع قيام كيان مشاغب، والتي يبدو أنها ستستمر طويلاً بينما تستحيل بقايا المجتمع السوري وأشلاء أطفاله إلى رماد بهدوء.

من كتاب "زمان الوصل" ضمن قسم "إسلام وجهاد"
(191)    هل أعجبتك المقالة (188)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي