أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

عندما صرخ الحريري في وجه أميرلاي: لماذا تتصور أنك المثقف وأنني مجرد رجل معي فلوس!

الراحلان... أميرلاي والحريري

بعد تسع سنوات من رحيله... مازال رفيق الحريري حاضراً معنا. 

ومازالت صورة الجثة المحروقة للرجل المهيب النبيل وسط حرائق التفجير الغادر الذي استهدف موكبه يوم الرابع عشر من شباط (فبراير) عام 2005 ماثلة في أذهان الكثيرين ممن يتفقدون رفيق الحريري في لبنان حزب الله وولاية الفقيه، ومواكب المقاتلين الذي يهتفون – وهم يمارسون القتل في سوريا نصرة للطاغية- يا لثارات الحسين... ولبيك يا زينب. 

في ذكرى رحيل رفيق الحريري التاسعة لا أجد مايجلو صورة رفيق الحريري في ذاكرتنا ووجداننا، أفضل من فيلم (الرجل ذو الحذاء الذهبي) الذي أنجزه المخرج السوري الراحل عمر أميرلاي، الذي رحل عن عالمنا في مثل هذا الشهر أيضاً عام 2011... ولعل هذه الرؤية الاستعادية للفيلم، هي تحية لذكرى هذين الرجلين العظيمين، ولهذه التجرية الفنية الفريدة التي قدما فيهما فيلماً وثائقياً يبقى للتاريخ بلا شك. 

الكواليس جزء من الفيلم! 
فيلم (الرجل ذو الحذاء الذهبي) الذي أخرجه عمر أميرلاي عنه، وصوره مدير التصوير السوري المتميز حنا ورد،  أنتج عام 2000 م. وقد صور حين كان رفيق الحريري خارج كرسي الحكم ورئاسة الوزارة. 
انطلق عمر أميرلاي كما يقول في الفيلم من أن رفيق الحريري، هو رجل مال وسلطة.. وأنه رجل يعيش في عالم من الثراء والفخامة.. البعيدة كل البعد عن واقع الناس والشارع.. وأنه أنفق ما أنفق في مؤسساته الخيرية كي يدخل السياسة من أوسع أبوابها وأكثرها شعبية وجماهيرية: سمعة الرجل المخّلص! 

هذه الافتراضات.. تبدو واضحة في الفيلم نفسه، فعمر أميرلاي يقدم صيغة طريفة وغريبة للفيلم الوثائقي، وهي صيغة الفيلم الذي يبدو – وهو يعرض على الشاشة – قيد الإنجاز، أي نرى فيه الحوارات الجانبية والخروج عن السياق الفعلي للحديث.. أي ما يمكن أن نطلق عليه (كواليس) يمكن الاستغناء عنها في عمليات المونتاج وحذفها.

 وهكذا يبدو عمر أميرلاي في الفيلم وكأنه يفكر بصوت عال أمام الكاميرا.. أي أنه يحاول أن يحاكم مادته نقديا، وأن يحاكم سيرة حياة الرجل الذي يتحدث عنه ويحاول الاقتراب منه، بحذر المثقف التقليدي من رجل بحجم ثراء وغنى وشهرة رفيق الحريري. 

الحريري يواجه أميرلاي
لكن المفاجأة الأبرز في مسار الفيلم، أن رفيق الحريري سرعان ما يلتقط هذا الحذر وتلك الرغبة المسبقة في إطلاق أحكام سلبية تحاول أن تدينه وأن تؤكد صحة الصورة التقليدية المرسومة في أذهان المثقفين تجاه أي رجل مال وسلطة.. فيواجه صانع الفيلم بها بهدوء، بدل أن ينسحب أو يحاول أن يوقف التصوير.

يسأل الحريري في الفيلم: (لماذا تتصور أنك المثقف صاحب الأفكار وأنني مجرد رجل سلطة ومعي فلوس) يبدو السؤال صاعقا على مخرج الفيلم الذي لا يظهر في الكادر.. لكن رفيق الحريري الذي يحاكم آلية العمل ومنابع الحوار الخفية، يقترح صيغة أخرى للحوار.. يقول لمخرج الفيلم أنه لا يريد أن يتدخل في (شغله) لكنه يعتقد لو أن الحوار معه كان أكثر عفوية لظهر العمل أفضل.. هذا الوعي الأخاذ بمجريات الحوار ومسار الفيلم يضفي على شخص الحريري جاذبية خاصة، فالرجل العصامي الذي بنى نفسه بنفسه، وغدا واحدا من أغنياء العالم، ورجلا وطنيا من كبار سياسيي بلده، يعترف أنه في الأشهر الثلاثة الأولى لتوليه أول حكومة في لبنان عام 1992، أصابه بعض الغرور، وأن هناك دائما – عندما تكون في منصب سياسي كبير- من يوحي لك أنك الأذكى والأكثر حكمة والأخف ظلا.. وأنه لولا وقفته النقدية مع الذات لغرق في حالة الغرور تلك.
هكذا قدم الحريري للمخرج المثقف الذي فشل في أن يدينه وبدا بالنسبة له غامضا ومحيرا، مادة نقدية من تلقاء نفسه.. مادة ما كان بإمكان محاوره الوصول إليها، لو أن الحريري أصر على أن يظهر في صورة الرجل المتأنق والصارم والمعصوم عن الخطأ.

 ولهذا بدا الحريري في هذا الفيلم المستعاد، قريبا من الصورة الأثيرة التي أكملها استشهاده.. وذاك انطباع شخصي قد يتفاوت من شخص لآخر، لكنه يبقى حاضرا ومشعا بعفوية الرجل وبساطته، وذكائه اللماح، وعفوية تعامله مع الكاميرا ومع المثقف اللدود الذي أتى إليه حاملا أفكاره المسبقة.. فخرج تلفه الحيرة، وقد تضاءلت شيئا فشيئا تلك المساحة النقدية التي حاول عمر أميرلاي أن يجر الفيلم إليها ففشل، واعتبر أنه أضحى في ورطة، لأنه الآن – أي أثناء إنجاز الفيلم- أكثر تعاطفا مع الرجل.

أميرلاي يعترف بفشله! 
حاول عمر أميرلاي أن يركز على حالة الثراء الفاحش، وأن يتوقف عند تفصيل حذاء الحريري الذي كان يحيره في إصراره أن يبقى نظيفا لامعا، في كل الأحوال.. لكن حتى محاولة اتخاذ هذه الثراء مادة للإدانة فشلت.. فالرجل العصامي الذي غدا مثالا للطموح والنجاح صرح بالفم الملآن: أنا فخور بكل قرش كسبته.. ولو أن خصومي السياسيين وجدوا في ثروتي أية شائبة لما توانوا عن استغلالها ضدي.. ولا يوجد أي عمل قمت به أخجل منه!

في كل الأحوال بقي الفيلم محاولة لاستجلاء الوجه الحقيقي لشخص كبير ونبيل.. محاولة انطلقت من أحكام مسبقة وشكوك.. واعتراف ضمني – من ثم – بفشل الفيلم في مهمته.. لتبدو النتيجة: بورتريها فيه الكثير من الشفافية والبساطة والنقاء والأسئلة التي كان الحريري جرئيا في طرحها أكثر من محاوره أحيانا! 

ليس – حدث الاستشهاد نفسه - هو ما أعطى لهذا الفيلم في ذاكرتي تلك الصورة النقية والشفافة لرفيق الحريري الإنسان.. بل هو الرجل نفسه، حيويته، والابتسامة البراقة في عينيه. حدة ذكائه.. بساطته في الحديث، وجرأته في نقد الذات، وقدرته العميقة والهادئة على كشف دوافع محاوره من دون تشنج أو عدوانية.. لقد قبل الحريري أن يستمر في تصوير الفيلم مع مثقف يناصبه، عدم الارتياح والرغبة في عدم التصديق في قرارة أعماقه، واكتفى بأن كشف تلك الدوافع أمام الكاميرا.. وترك صاحبها عاريا أمام حقيقة أن الحوار هو مكاشفة ومواجهة.. وهو محاججة وأدلة وبراهين دامعة.. لكن البرهان الدامغ الأخير الذي يرسخ في ذهن المشاهد أن الحريري في هذا الفيلم، يخوض تجربة مثيرة في الحوار مع الآخر، وهو يحاول أن يصل إليه من كل الطرق الالتفافية والمباشرة، ويبدو بشكل أو بآخر مساهما في إقرار الصيغة الفنية النهائية للفيلم، ليس عبر تدخله في صورته بعد المونتاج بالتأكيد.. بل من خلال قدرته على توجيه الحوار إلى مناطق دافئة ومحرجة. 
وفي المقابل سعى عمر أميرلاي إلى ابتكار صيغة فنية نزيهة تناسب المسار الذي وصل إليه الفيلم، وتكفل له إثارة المزيد من الأسئلة في الاتجاهات كافة.. فقد كان عمر أميرلاي جريئا، حين كشف – في الفيلم ذاته - حقيقة أنه فشل في إظهار تناقضات (رجل السلطة والمال) كما سماه في عنوان الفيلم الفرعي.. وأن هذا الرجل الكبير والطموح والواثق من نفسه بلا ادعاء، أربكه حين أمسك به متلبسا بالاستناد إلى أحكام مسبقة ضده.. واستطاع أن ينتزعها منها شيئا فشيئا كما تنزع الأشواك من جسد يضج بالأسئلة. وأنه – أي أميرلاي- قد وصل إلى حالة تعاطف محيرة مع الرجل فلجأ إلى أصدقائه كي يحاكموه ويحاكموا الفيلم أيضا... وكان الجزء الأخير من الفيلم ندوة مصغرة لعدد من المثقفين كي يبدو آراءهم بما صوره أميرلاي... ولماذا انتصر عليه الحريري! 

رحم الله رفيق الحريري. لقد بدا في هذا الفيلم الوثائقي جديرا بكل حب وإعجاب.. جديرا بالثراء والنجاح والطموح.. وجديرا أيضا بأن يحطم الحاجز بين المثقف والسياسي، وبين الصورة المرسومة من الخارج والتفاصيل الإنسانية التي تتدفق في الداخل  في لحظة حوار كاشفة ومكاشفة نادرة وجريئة ومثيرة للاحترام.. حولت هذا الفيلم الوثائقي إلى تجربة فيها الكثير من الجدة الفنية والعمق الموضوعي!

ذكرى الشهيد الحي!
لقد كان مخطط اغتياله هو مخطط اغتيال لبنان الناهض من زمن الحرب الأهلية والركام. كان مشروع إعادة إعمار قلب بيروت التجاري القديم، صورة مصغرة عن محاولة إحياء قلب لبنان نفسه... لبنان التواق للحرية واستعادة دوره، ولبنان المتململ من همجية الاحتلال الأسدي، وتغول مخابراته، وإفسادهم لسياسييه، واستبدالهم بأمعات

لكن بعد تسع سنوات من اغتيال الحريري... مازال دمه يلاحق القتلة. فقد دق الحريري باستشهاده المسمار الأول في نعش النظام الاستبدادي الذي أذل السوريين واللبنانيين، ولم تمض أسابيع عدة، حتى خرج جيش الأسد مدحورا من لبنان تحت طائلة تهديدات أمريكا ارتعدت له فرائصه... فخف بشار الخائف إلى مبني مجلس الشعب، ليعلن قراره المذل بالخروج من لبنان... واليوم يلاحق دم رفيق الحريري مجرمي حزب الله الذين وجهت لهم المحكمة الدولية اتهاماً بالتورط في قتله. 

وسيكون أجمل ما يعيد لاستشهاد الحريري ثمن موته، خبر انتصار الثورة السورية في زمن قادم... ربما يطلق فيه الدمشقيون اسمه على واحدة من أجمل ساحات أو شوارع دمشق الحرة. 

من كتاب "زمان الوصل"
(181)    هل أعجبتك المقالة (157)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي