حمص: ما لم يستطيعوا سرقته وبيعه في "سوق السنة"!

لن تنسى حمص ذلك اليوم...
لسنوات وعقود طويلة لن تنسى حمص...
لن تنسى يوم الثامن من شباط/فبراير 2014 حين بدأ خطة إجلاء الأطفال والنساء والمسنين من أحياء حمص القديمة المحاصرة بإشراف الأمم المتحدة، وحضور سفيرها يعقوب الحلو.
فالمحاصرون الذين أجبرتهم (600) يوم من الحصار وندرة المواد الغذائية وصولا إلى حالة الجوع الكافر، خرجوا من سجن الحصار إلى فضاء التشفي البشع.
كان كاميرات الجريمة جاهزة بانتظارهم... وكانت قنوات تلفزيون نظام الأسد، ومعه إعلام (الممانعة) كالمنار والميادين بانتظارهم... كانت الوجوه الشاحبة المتعبة تشيح عن أعين الكاميرات الوقحة، التي تريد أن تمحو ما يقرب من عامين من الحصار بلقطات تفيض بالرحمة المتلفزة، من قلب نظام وطني لم يخجل من استخدام سلاح التجويع ضدهم... وكانت صور أهالي حمص القديمة الجوعى وهم يلتهمون ما قدمته لهم الأمم المتحدة، وصمة عار في جبين من جوّعهم، ثم راح يتاجر بصور فك الحصار عنهم!
في الطرف الآخر... مارس شركاؤهم في الوطن والمدينة واجبهم الوطني على أتم وجه. حاول مجموعة من مستوطني حيي "النزهة" و"عكرمة" أن يقفوا سداً بشرياً في وجه سيارات الأمم المتحدة التي تحمل المساعدات الغذائية للمحاصرين.. رافعين شعار: (لا لإطعام الجماعات الإرهابية)... ليضيفوا إلى سجل سوابقهم (التاريخية) سابقة أخرى لا بد ستشكل جرحاً في الذاكرة الوطنية... ليس لأن ما جرى قبلها أقل وطأة منها... بل لأن رمزيتها فادحة.
إنها تقول لأهالي المدينة الأكثر تسامحاً ونبلاً وطيبة ونقاء، والتي تشغل القلب في الذاكرة والجغرافيا السوريين: انسوا أنكم جيراننا، وأن هناك صداقات وعلاقات ومشوار حياة بيننا... فهذه هي مشاعرنا الحقيقية تجاه جوعكم، وحصاركم، نعلنها بلا خجل، وأمام موظفي الامم المتحدة لنقول لكم إننا لم نعد شعباً واحداً!
أكثر من ذلك رأى بعض أهالي حمص الخارجين من ليالي الحصار الطويلة، أن العالم قد تخلى حتى عن سلطة وهيبة الأمم المتحدة تجاه تنفيذ اتفاقاتها الإنسانية. فأمام موظفي الأمم المتحدة انهالت قذائف الهاون على من تجمعوا لاستلام المعونات الغذائية... وسقط شهداء، لم يرفع أحد صوته ممن شهدوا ما جرى من الموظفين الدوليين لإدانتهم وتحميل نظام الأسد مسؤوليتها... وخصوصا أن إعلام هذا الأخير لم يخجل أمام ميوعة الأمم المتحدة من إطلاق روايته التي لا يصدقها عاقل: (الإرهابيون يطلقون القذائف لقتل من خف منهم لاستلام المعونات الغذائية)!!
هذا السلوك... وهذا التساهل... وهذا العجز المسبق الصنع، سمح للنظام أن يخل ببنود الاتفاق حين راح يعتقل عشرات الشبان ممن هم تحت سن الخامسة والخمسين من العمر، ويقودهم إلى معسكرات اعتقال أقامها في مدارس، بحجة استجوابهم والتحقيق معهم... وهناك ذاق أولئك الخارجون من الحصار معنى الإهانة والضرب والشتم من شبيحة فقدوا كل معايير الانتماء للألم الإنساني أو الوطني.. وهذه المرة اكتفت الأمم المتحدة بالإشارة إلى حوادث الاعتقال، على سبيل التوصيف والإشارة... دون أن يحمل بيانها أي معنى احتجاج او صيغة إدانة واضحة!
لن ينسى أهل حمص ما جرى لتلك المهمة الإنسانية التي أريد لها ان تحفظ بعض ماء وجه الصمت الدولي تجاه حصارهم وتجويعهم الطويل... فإذا بها تتحول إلى مهنة لا إنسانية، يترك لنظام الأسد ومؤيديه ممارسة ساديتهم السافرة، والتعبير عن مستوى الانحطاط الأخلاقي الذي بلغوه بجدارة!
لكن حمص التي لن تنسى... لن تبقى جريحة... ولن تبقى أسيرة هذه الذكرى السوداء.
لأن حمص التي انتزعت لقب عاصمة الثورة في الأشهر الأولى من اندلاعها... تجسد حقيقتها على نحو بالغ النبل والصفاء. فهذه المدينة التي اختزلت عذوبة النكتة السورية، والتي كان أهلها –بخلاف كل أبناء المدن الأخرى- لديهم من الروح العظيمة ما جعلتهم يؤلفون النكات على أنفسهم، ويروونها للآخرين كي يضحكوا لها، دون أن تهتز ثقتهم بذواتهم، وبقدرتهم على إبداع الحياة... هي الأكثر قدرة على تجاوز جراح الذاكرة الوطنية المثخنة في وقائع أيامها المترعة بالجوع والحصار والدمار وصولاً إلى هذه السخرية السوداء المرة التي حولت مهمة الأمم المتحدة الإنسانية إلى فصل من فصول الجحيم.
لا أحاول أن أبيع الأمل والتفاؤل الكاذبين، حين أقول إن حمص ستعود لتبدع نعيمها، وتوزع حلاوتها في كل الدروب التي يعبر السوريون منها وإليها... فضحكاتها الساخرة النبيلة أكبر من آلام كل هذا الجحيم... وخلال ثلاث سنوات من الثورة أعطت حمص الكثير من الدروس لكل السوريين... وإنني مع كل آلام الثورة التي عشتها، والأحزان التي رصدتها، والكلمات التي ذرفتها في الصمت حيناً والصراخ الموجوع حيناً آخر، أعتبر نفسي اليوم تلميذا صغيرا في مدرسة حمص. فقد علمتنا حمص جميعاً الصبر على أذى شركاء الوطن، والتسامي على الجراح... وحتى حين سرقوا كل شيء من بيوت أهلها ليملؤوا به سوق السنة... شيئا واحداً لم يستطيعوا سرقته... إنها سخرية الحماصنة التي تساموا وحاربوا بها هذا الانحطاط... وحتى في ظلال الموت نفسه لم يستطيع أحد أن يتنزع من حمص القدرة على إبداع الابتسامة، والقدرة على تحويل النكتة إلى ثورة من الغضب، وسفالات الشبيحة إلى حائط للكرامة والكبرياء، يرد الإهانة إلى مرتكبيها!
حمص الوليد كما هذا القائد العظيم الذي يرقد في ثراها، والذي لم يهزم في أي معركة خاضها... لن تهزم روحها. أقول هذا بعد أن استعرضت كل ذرى الألم في مسار أيامها الأخيرة، وفي تغريبة أهلها الذين أخرجهم الجوع من حمص القديمة، وفي كل ما تركه الدمار على مبانيها وأحيائها... فمازال أهل حمص هم الأكثر ألقاً، والأقوى بنياناً، والأصلب روحاً ومعنى.
في حمص معنى سوريا كلها... وفي حمص تنبض الجغرافيا كالقلب... وفي حمص يصبح للهزيمة معنى الانتصار... ليس من قبيل المكابرة، ولا رش السكر على الموت، بل من قبيل القدرة على الحضور، وعلى التأثير، وعلى البقاء.
لن ينسى أهالي حمص... وربما لن يسامحوا بسهولة، لأن الثمن الذي دفعوه غالياً، لكنهم سيغفرون بلا شك... وسيعلموننا جميعاً معنى أن نغفر كي نبني سوريا الجديدة... سوريا التي ستبصح حمص فيها عاصمة الضحك الأبيض في الزمن الأسود. وسيأتي الزمن الذي يؤلف فيه الحماصنة النكات عن التغريبة الحمصية، وعن المهمة الإنسانية للأمم المتحدة التي صارت عنواناً لغياب الإنسانية في ملهاة ساخرة مرة، ستصبح عنواناً للتطهر من الألم.
فسلاماً لكم أيها الخارجون من جحيم إلى جحيم... لأنكم تحملون في أرواحكم البشرى والبشارة... وفي كبريائكم البسيط، ونبلكم الموشى بالظرف والطيبة، كل وعود الأمل والشفاء في ذكرى وذاكرة أيامنا القادمة.
من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية