أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

قراءات من وحي جنيف

نجاح لافت ومفاجئ
رغم أن مخرجات الجولة الأولى لمؤتمر جنيف 2 تساوي الصفر على صعيد النتائج الملموسة، إذ لم يلمس الناس إلا المزيد من البراميل المتفجرة، إلا أنني أجزم أن نجاحا لافتا حققه وفد المعارضة المفاوض في جنيف، مقابل فشل لافت حققه وفد النظام. 

لا أخفي بأنني فوجئت كما فوجيء أغلب المراقبين والمهتمين بالأداء الجيد لوفد الائتلاف المفاوض، والذي فاجأ حتى أعضاء الوفد أنفسهم، فقد بدا الوفد متماسكا متوازنا يعرف ماذا يريد ويتحكم بردود أفعاله، يخطو بانتباه وتركيز ويتجنب المنزلقات والأفخاخ بطريقة احترافية، يدافع بثقة وكفاءة عن قضيته، ويحرج خصمه ويحشره في خانة المتهم الذي لا يعرف كيف يدافع عن نفسه، يثبت للعالم أنه جاء من أجل الحل السلمي وإنقاذ بلده وأهله من هذا الصراع المدمر، ويثبت للعالم بنفس الوقت أن وفد النظام لم يأت إلا من أجل هدف وحيد أوحد هو إنقاذ نظام الأسد وإطالة عمره، ولا يعنيه الحل السلمي وإنقاذ البلاد والعباد لا من بعيد ولا من قريب. 

ربما تكون توقعاتنا المتشائمة من نجاح المؤتمر هي وراء إحساسنا التالي بنجاحه، ومرد التشاؤم أسباب موضوعية محقة، فقد كنا نرى في الائتلاف طرفا مفاوضا ضعيفا من حيث التمثيل، ضعيفا من حيث الخبرة، ضعيفا من حيث الانسجام، مكبلا بالقيود، مثقلا بالضغوط، منهمكا بالصراعات، مثخنا بالجراح التي خلفتها صراعاته الداخلية قبل الخارجية، نذكر بشكل خاص معركته الأخيرة بشأن رئاسة الائتلاف والمشاركة في المفاوضات، وما ترتب عنها من استقالات وانسحابات أضعفت تمثيله وكادت تقضي على وجوده.. يضاف إلى ذلك أن موضوع مشاركة الائتلاف لم تحسم إلا قُبيل المؤتمر بساعات، ولم يكن هناك متسع من الوقت للاستعداد والتحضير الجيد واللائق باستحقاق بهذا الحجم والخطورة... وبالمقابل كنا نرى الطرف الآخر واثقا بنفسه وبحلفائه، مدربا متمرسا، أعد العدة واستعد كما يجب، ولديه من الخبرات والمهارات ما يكفي لكسب المعركة بالضربة القاضية.

كسب فريق المعارضة الجولة الأولى بدون شك، ومؤشرات ذلك عديدة وواضحة، ردات فعل أعضاء وفد النظام مؤشر، سعار إعلام النظام مؤشر، ازدياد العنف والوحشية على الأرض مؤشر، استقبال الروس المتميز لوفد الائتلاف مؤشر... ولا شك أن ثقته بنفسه قد تحسنت مثلما تحسنت ثقة الناس به.. 
" نحن كمن يحفر بالصخر.. لكننا حفرنا وسنحفر" هذا ما قاله لي بالحرف الواحد أحد كبار المفاوضين.

العودة إلى السياسة
الشيء اللافت في أداء الائتلاف في استحقاق جنيف هو العودة إلى السياسة، والعمل بأدوات السياسة، بما يعنيه ذلك من واقعية وبراغماتية وحسابات، وفهم بالتوازنات والقوى والمصالح.. بعد أن كان بعيدا عن السياسة خطابا وممارسة، فمن الشعبوية واسترضاء الشباب الثائر والفصائل المحاربة، إلى الصراخ والعويل والشتم والتهديد، إلى مخاطبة العواطف واستجداء التدخل، إلى الاندفاع غير المحسوب وراء مواقف وتصريحات بعض الزعماء..

لقد رأينا السياسة بداية في قبول الائتلاف بالذهاب إلى جنيف رغم عدم تلبية أي من شروطه، مما يدل على شيء من الحنكة السياسية وبعد النظر، حيث كان من شأن عدم الذهاب أن يعزز من موقع النظام كراغب في الحل السلمي وساع إليه، ويعزز بالمقابل من فكرة أن الائتلاف يرفض الحل السلمي في الواقع ويرغب في التسويات العسكرية، وستكون نتيجة عدم المشاركة مكسبا خالصا للنظام سيعمل على استثماره للحدود القصوى.

ثم رأينا السياسة في أداء وفد الائتلاف في جولة المفاوضات، بدءا بكلمة الجربا التي كانت ذكية ومتميزة بكل المقاييس، انتهاء بكلمة البحرة التي كانت أيضا قوية ومتميزة، وما بينهما من محطات وجلسات، مما جعل معظم نقاط الجولة تذهب لصالح المعارضة على عكس ما كان متوقعا.

ثم رأينا السياسة في زيارة الوفد إلى روسيا بعد أن كان متمنعا متشددا حيالها، والسياسي الحق هو من يطرق كل الأبواب ويعمل على كل المسارات، ويخلي شعرة معاوية حتى مع الأعداء.

نظام العصابة
أثبت وفد النظام عبر كل ما قاله وفعله في جنيف أنه لا يمثل سوى العصابة التي تحكم دمشق، وليس في أجندته إلا بند واحد هو بقاء الأسد، ولا مكان في وجدانه لكل معاناة السوريين التي فاقت كل تصور.

الأسد خط أحمر، وهيئة الحكم الانتقالي خط أحمر، وأبسط التنازلات الإنسانية تجاه محاصرين يموتون جوعا أو معتقلين يموتون تعذيبا.. أيضا خط أحمر.. حتى الإفراج عن الأطفال والنساء خط أحمر..  

وفد النظام يفاوض في جنيف، وبراميله المتفجرة تدفن الناس تحت ركام بيوتهم وتمزق أجساد أطفالهم في حلب وداريا وغيرها.. براميل لا شيء يشبهها وحشية وهمجية إلا من يلقيها أو يأمر بإلقائها... 

وفد النظام يفاوض في جنيف وسجونه الرهيبة تلفظ على مدار الساعة جثث شبان سوريين بعمر الورود قتلوا تحت التعذيب، لم يكن وسام فايز سارة أولهم ولن يكون آخرهم...  

إنه نظام العصابة عندما يحكم، عصابة ولا كل العصابات، بل عصابة تخجل من افعالها أحقر العصابات. 

من كتاب "زمان الوصل"
(137)    هل أعجبتك المقالة (139)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي