1
لا أجد من حقي قول أي شيء عما يجري في حمص الآن. لا يحق لي ولا من أي وجه كان. أنا لم أحاصَر. ولم أقتل. ولم آكل لحم القطط. ولم أفقد كل وزني جوعاً. ولم تسقط قذائف الموت وهاونات الحقد على سقف بيتي ولا انهدم لي جدار ولا تشردت ولا نمت في حاوية التاريخ القذر. لم أختبىء تحت زوايا البناية لأحتمي من صاروخ. لم أنتشل طفلتي من تحت معادن وبلوك البناية. لم يسل دمي أو ينشف من البرد والجوع والعراء.
يحق لأهل حمص أن يفعلوا ما يشاؤون. أشعر بالخجل حتى من حنيني إلى حمص. أتضاءل يوما وراء يوم.
ليس من صلاحيات هذا الحنين أكثر مما هو متاح له تحت سقف الضمير والأخلاق. فقد يصبح الحنين في لحظة ما قناعا لأبرىء ذمتي. وأنا لا أريد تبرئة ذمتي إن كان عليها ديون...
أهلي في حمص... بل أهل حمص في حمص... افعلوا ما تشاؤون. لا تستمعوا إلينا. نحن ظلال ضحلة لقاماتكم. إذا رضيتم بنا ظلالاً...
2
تُستحضر حمص من قبل الكثيرين كجزء منفصلٍ عن الواقع السوري الدموي المحاصر الشامل، وهذا ربما كان مبررا عاطفيا، ولكن لدى النظر في أساس المعضلة المغلقة، لا بدّ من عدم فصل أي مكانٍ سوريّ عن سياقه السوري الكليّ. ومع أن حمص تعني الكثيرَ لدى جميع الأطراف: القاتل الحاكم بجيشه وأجهزته وشبيحته، ولدى الآخرين الواقعين في محرقة القهر والدم والجوع والتهجير، ولدى كيانات المعارضة داخلا وخارجاً، مع كل ذلك، ثمةَ قصورٌ في الرؤيا حين نستسلم لعزل حمص في مخيلتنا أو أدائنا السياسيّ. بل من طموح النظام القاتل أن يكرس هذه النقطة ليجعل الصدى المطلوبَ ضعيفاً وشاحباً.
لا ننكر إلحاح النظام المخابراتي على تصفية معنى حمصن من خلال تفريغها، وتغيير واقعها الديمغرافيّ بشكل مباشرٍ لا تغيب عنهُ الرؤية الطائفية الفجّة، وهذا ما يتيح له الانتقامَ من المجموعات السكانية التي تمردت على سلطته منذ البدايات، انتقاماً أشنع ما يمكن أن يكون، فيصفي حسابه مع مواطنين تجرؤوا على خلخلة العلاقة الاستعبادية التي كرسها النظام السوريّ منذ "الحركة التصحيحية"، العلاقة التي لا وجود فيها لاحتجاج ولا رفض ولا تمرد، من أي نوع كان، ومن جهة ثانية، يتيح النظام لنفسه تكريس واقع مستقبليّ يريده أن يحمل طابع الديمومة، سواءٌ أرحل أم لم يرحل، فذلك نوعٌ من الانتقام الآخر: الانتقام من المستقبل السوريّ عبر قلب موازين المجتمع وخلط الأوراق بل وحرقها، لترك رقعةٍ جغرافية سكانية اقتصاديةٍ رهنَ التشتت والتمزق والتفكير بالأحقاد والرغبات اللاواعية في إلغاء الآخرين وتأجيج الصراع اللا وطنيّ معهم. وهذا نوعٌ سافلٌ من تعاطي (الدولة) مع مواطنيها، ذلك التعاطي الذي يدل بكل جلاء على أننا لسنا أمام دولة في الأصل، بل أمام مافيا تضرب ضربتها الانتقامية من أي طرف يتجرأ على الوقوف في وجهها.
3
ليس هناك نظامٌ في العالم يحقّر مواطني الدولة، كما يفعل الإعلام السوريّ الأسديّ، بوصف المحاصرين في حمص، وغيرها، بأنهم إرهابيون، قتلة، يتناكحون باسم الجهاد، فهذا شكل منحطّ، وليس غريباً على النظام وإعلامه، في تشويه واقع الجائعين المعدومين المتروكين لأكل الحشائش ولحم الحيوانات وليس لديهم وقتٌ سوى للتفكير بساعة الخلاص من هذه النظام الاستعبادي الوقح.
ليس هناك وزيرُ خارجية دولة يتفاخر برمي براميل الموت المرعبة على مدنيين بحجة أنهم يحمون الإرهابيين. كما فعل المعلم في جنيف، حين تساءل في أتفه موقف إعلاميّ رخيص: (وهل تريدون أن نرسل إليهم رسائل SMS؟) هذه صورة كافية لندرك في هاوية منْ وقع الشعب السوريّ من رموز حكمٍ تحتقر أبسط آلام مواطني الدولة.
وهذا ما تكرر في روايتهم البغيضة عن حمص، حيث يطلقون اتهامات هشّة ويطالبونك بأن تقضي وقتا طويلا في تفنيد هذه الاتهامات كواجب أخلاقيّ، وهم يعرفون أن ما يتبجحون به هو شكل من أشكال حرب نفسية ساقطة.
4
حوّلَ النظام حمص إلى موضوع تفاصيل عابرة، خلال المفاوضات، مستفيداً من طريقة تفاوض الإسرائيليين مع العرب، في حشرهم في أدق الجزئيات العابرة، التي توهمُ الخصم بأنها مركز القضية... وهو يدرك حاجة المدنيين إلى أدنى شروط العيش الآمن ولو لساعات فقط! ولكنه لملم بنود القصة الرئيسية تحت الطاولة وطرح فوقها خيوطاً مشربكةً من كبكوبة خيطان معقدة...
الذي لا يجب تجاهله هو: كم جولة مفاوضات ينبغي الخوض فيها حتى ننتهي من حصار المدنيين في أرجاء سوريا؟ الذي لا ينبغي طمسه: هل جوهر الوضع هو فك الحصار عن المدنيين؟ إن من يفكّ الحصار هو النظام نفسه، وهذا إمعانٌ في تحقير الآخرين ووضعهم في صورة أن القاتل هو من يحاصر، وأنكم مجبرون على الطلب منه لفكّ الحصار... بينما نحن في الأساس لم تكن أزمتنا مع النظام تفاصيل وجوعاً وخبزاً وكفى... أزمتنا وطنية شاملة، تاريخية أيضاً في التحليل الأعمق... ليست أزمتنا معه مدينة حمص، ومدينة درعا ومدينة حلب... هذه كلها تجلياتٌ جزئية للأزمة الخانقة التي خرج السوريون للعثور على حل لها...
5
تضخَّمَ هذا النظام من داخله على مجموعة أزمات اعتاش عليها وقتل الآخرين معنويا وثقافيا وسياسياً، منذ استيلائه على الدولة والمجتمع، هي أزمات مجزأةٌ، ليهرب بقوة البطش وسطوة المخابرات والجيش المفرّغ من رسالته الوطنية، ليهرب من الاعتراف بأن أمامه مواطنين متساوين في الحقوق، فبات يعطيهم فتات حقوقٍ من طرف الكيس المختنق الذي يملكه بغير وجه حق... نظامٌ لا يعنيه نموّ وطن ولا ازدهار مجتمع كامل، لذلك هو يستمر حتى في كارثة الوطن في تجزيء الأزمة والحطّ من شأنها العميق الجوهري. وهكذا تفعل كل الأنظمة الشمولية العسكرية المتوجة بالأوسمة وكراسي التعذيب... تحصر كل القيم في الشكل العرَضيّ، وتطمس الجوهر... وكيف لأنظمة عرَضيةٍ، طارئةٍ على التاريخ، أن تعرف الجوهر؟
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية