كما يُساقُ البعض إلى الجنة بالسلاسل، حسبما وردَ في الأثر، يبدو أن من فضائل الثورة السورية تشكيل ثقافةٍ جديدة بين السوريين، تليق بمعاني ثورتهم وأهدافها، وتكون أرضيةً لمستقبل سوريا الجديدة في مختلف المجالات.
وقد يكون من عناصر تلك الثقافة امتلاكُ القدرة على التعايش مع الاختلاف في الرأي، وعلى ألا يُعتبر النقدُ بالضرورة تخويناً واتهاماً، وأنه يستهدف الأفكار والمواقف، أما الأشخاص فأمرهم إلى الله وإلى التاريخ، مالم يقوموا بممارساتٍ يَظهر للناس بوضوحٍ وجلاء أنها في إطار الإساءة المقصودة للثورة والبلاد. فهنا، يُصبح حُسنُ الظن سذاجةً، ويُمسي طبيعياً اتخاذُ المواقف العملية من الأشخاص لوقف إساءتهم، بعيداً عن العنف بطبيعة الحال، وفي إطار القوانين والأعراف.
أكتب هذا تعليقاً على رسالة وصلتني من زميلٍ له وزنه في وفد الائتلاف إلى جنيف2، جاءت بعد مقالي النقدي الصريح لأداء الائتلاف، والمنشور يوم الجمعة الماضية.
ذكرَ الزميل في رسالته أن المقال يحوي تفاصيل "في غاية الأهمية حول التحضيرات المطلوبة"، وتمنى لو أنني سألتُ عن "التحضيرات قبل كتابته"، لأن الموجود في المقال "هو ما قام به الفريق التحضيري تماماً على مدى شهور ثلاثة على الأقل"، مع التأكيد بعد ذلك على أن "هناك من الملفات ما لو أحببت الاطلاع عليه فنحن جاهزون". ومع الاعتراف بأن التقويم لأداء الوفد هو "متوسط"، إلا أن الزميل ذكر أن "جميع من قوّموا الطرفين أكدوا مع ذلك حصول وفد الائتلاف على قصب السبق في وجه وفد النظام في الأداء في هذه الجولة، على الرغم من ضعف الأوراق، وهو ما يجب تصحيحه في الجولات التالية". مع ختام الرسالة بالتأكيد على ضرورة التعاون واجتماع الجهود لمستقبل سوريا.
أرسلت رداً للزميل أورد جزءاً مما ورد فيه كما مايلي:
"بغض النظر عن رأيي أو رأيك في التحضيرات فإن الوقائع هي التي تفرض نفسها كما تعلم في عالم السياسة.
هل يوجد في الوفد عزيزي مختصون في المجالات المذكورة في المقال؟
أين كانت المشكلة في تحضير وفد إعلامي محترف وضخم من الإعلاميين السوريين المنشقين؟
كيف يمكن الإجابة سياسياً وعملياً على موضوع قدرة وفد الائتلاف على تنفيذ أي اتفاقات على الأرض؟
هل هناك فعلاً دراسات لكل التجارب المماثلة السابقة من المفوضات الفلسطينية إلى كوسوفو مروراً بالبوسنة وغيرها؟ وهل لدى الوفد فعلاً ورقة تتضمن قائمة أساسية فيها استقراء سياسي لطروحات وفد النظام والإجابات عليها؟ أكون سعيداً فعلاً لو أكدت لي هذا، وأكثر سعادةً بالاطلاع عليها.
وماهي المعاني الاستراتيجية من وراء قيام النظام بالبدء بحملة وحشية غير مسبوقة خلال المؤتمر، ثم متابعتها خلال الأيام الماضية، والشباب يعطونه التأكيد تلو الآخر بأنهم سيحضرون بغض النظر عن كل شيء يقوم به؟
وقبل هذا كله، لاأحد يتكلم عن رفض المسار السياسي كما لايخفى عليك، ولكن أنا على يقين أنك بخبرتك تعلم أن البدء كان يمكن أن يكون من نقطة متقدمة كثيراً.."
وبعد الإحالة للمقال وشيء من الشرح في الموضوع ختمتُ الرسالة بالقول: "على كل حال، المسؤولية كبيرة وأرجو أن تُوفقوا لأدائها. ورغم عدم ادعائي للخبرة العملية في الموضوع إلا أن من الممكن المرور على جنيف لرؤية الوضع عن كثب إذا كان سيمكن لي لقاء الزملاء والحوار معهم بشكل شفاف وصريح".
رد الزميل قائلاً: " معظم أسئلتك أجيب عليها عند التحضير (منها على سبيل المثال لا الحصر النماذج السابقة كالبوسنة وكوسوفو وفلسطين، وحتى جنوب أفريقيا)، وآمل فعلاً أن يتاح لنا الجلوس للاطلاع والتعاون.
المسألة الوحيدة التي أتفق معك في ضعف التحضير لها: الشروط المسبقة المهيئة للتفاوض، التي ذكرتها في الاقتباس أدناه من مقالك.
ومع ذلك فقد كانت هناك دراسة للمكاسب والخسائر في حال الدخول في المفاوضات ضمن الوضع الحالي وشروطه، وحتى ضمن حالة الضعف المذكورة، ونتائجها تستحق اللقاء والنقاش والتأمل".
ورغم أنني على اطلاع جيد على التحضيرات وطبيعتها خلال الأشهر الماضية، إلا أنني لم أحصل من الزميل حقاً على مايؤكدُ وجود إجابات الأسئلة المذكورة وغيرها مما تطرحه الوقائع ويطرحه الخبراء، ولا يزال الحوار مستمراً، والله أعلم فيما يتعلق بزيارة جنيف، لكن تأكيد استمرار المفاوضات بعد أيام يفرض على الجميع استمرار البحث في هذا الملف.
فالموضوع يتعلق بسوريا الثورة وسوريا الوطن، وحساسيته الاستراتيجية على جميع المستويات تُملي الحوار فيه بكل صراحة وشفافية.
ثمة نقاطٌ تكاد تكون بديهية، ومن الغرابة بمكان عدم الانتباه إليها على أهميتها، في حين أن تحقيق ذلك قد لايتطلب أكثر من تكليف بعض الفنيين بالاطلاع على مايُكتب من تعليقات. ولاحاجة للذهاب بعيداً، إذ يكفي الاطلاع على صفحة حوارات أعضاء المجلس الوطني التي ننقل منها (شهادتين) أولاهما لعضو المجلس الزميل مؤيد غزلان يقول فيها:
"عدد السلات الغذائية التي تمخضت عنها مفاوضات جنيف 2 لحمص القديمة المحاصرة هو 500 سلة غذائية فقط يشرف عليها برنامج الغذاء الدولي ..ومازال النظام يرفض ادخالها لانه يطالب بضمانات ان لاتقع بايدي المسلحين وفقا لتصريح فيصل المقداد من جنيف.. لست مستغربا من رد فعل النظام فهو مخلص لسياسته ونهجه والدموي... مايؤرقني ويفض النوم من عيناي هو: كيف توافق المعارضة على اختزال بند الفك النهائي للحصار الى تفاوض على مجرد 500 سلة غذائية وكيس طحين الى حمص والتي لم تثر يوما من اجل ماء ولا غذاء بل ثارت من اجل اسقاط الاسد ونظامه، ومن اجل الاسهام في حرية السوريين المعتقلين المكبلين المكلومين منذ 40 عاما؟
طالبنا منذ اشهر وخلال حملة اﻻضراب عن الطعام بعدم قبول اية حلول جزئية مسكنة وآنية في المسار الانساني وخصوصا بند سياسة الحصار والتجويع ، بل طالبنا علنا بفصل الملف عن المقايضات السياسية مع النظام وبضرورة ايجاد رقابة اممية لممرات اغاثية دائمة لجميع المناطق والمدن المحاصرة بسورية , كاساس الورقة التفاوضية الانسانية قبل جنيف كضمان دولي لعدم استخدام حصار وتجويع المدنيين كورقة ضاغطة من قبل النظام السوري .
وكأن مطالبنا فضت انكاثا وتطاير ريحها ... لكني لم اتخيل قط ان نقبل بفتات كهذا ".
ثم ينقل الزميل خبر الواشنطن بوست عن الـ 500 سلة غذائية التي تنقل الصحيفة عن برنامج الغذاء العالمي أنها تنتظر خارج حمص.
بالمقابل، نجد السيدة ريما فليحان عضو الوفد، في تصريحات علنية لقناة الجزيرة، (تناشد) الروس بالضغط على وفد النظام وتؤكد أنه نجح في المماطلة والتسويف خلال الأيام الماضية. وحين يسألها المذيع عن موقف وفد الائتلاف مادام يعترف بأن وفد النظام يماطل ويسوﱢف، تجيب بأن الوفد لن ينسحب لأن الهدف هو "إيقاف سفك الدماء"! ثم حين يسألها المذيع عن ممارسات النظام التي تزيد سفك الدماء أثناء المفاوضات تتهرب من الإجابة وتتحدث عن الحاجة للوصول إلى دولة ديمقراطية ووو..
هذه حالٌ أقل مايُقال أنها غريبة، والمرء لايحتاج فعلاً إلى بذل جهدٍ كبير لتحليل الموقف أو تقديم المقترحات. لهذا، نعود للشهادة الثانية لعضو المجلس الوطني السيد خالد المصري، والتي يقول فيها:
"قلنا ان اي عملية تفاوض يجب ان تسبقها عدة اجراءات كوقف إطلاق النار ولو نسبيا فك الحصار الكامل عن كل المناطق المحاصرة إطلاق صراح المعتقلين.
قالوا اننا لا نستطيع ان نطلب ذلك لان المجتمع الدولي المتمثل اساسا بفورد وكيري ولافروف وبغدانوف لا يوافق على ذلك.
وعلينا الذهاب لنوقف تدفق الدماء.
ذهبوا الى جينيف وها هي الايام تمضي بدون احراز اي تقدم.
فقط هو تقدم للنظام بمزيد من القتل.
النظام كان قد فقد الكثير من قاعدته الشعبية والعسكرية.
الان بهذه المماطلة يستعيدها والمعارضة تخسر قواعدها الشعبية والعسكرية.
سيقال ان المجتمع الدولي يكشف النظام ويكشف كذبه.
من قال لكم ان المجتمع الدولي لا يعرف النظام من قال لكم ان المجتمع الدولي لا يعرف كل مكان ارتكبت فيه جريمة حتى لو داخل معتقل.
حتى الان النظام يكسب على كل المستويات والمعارضة تخسر على كل المستويات.
اي كلام غير ذلك يعتبر تخريف لا معنى له ابدا.
على وفد المعارضة ان يطلب وقف التفاوض مؤقتاً ويعود الى قواعده ويجري حوار شامل مع كل قوى المعارضة بالداخل والخارج عسكرية ومدنيه ويحدد نقاط التفاوض على جنيف1 ويذهب بوفد سياسي عسكري يضاف له اختصاصيين اعلاميين واقتصاديين وقانونيين ومسلح بوثائق كامله عن كل النقاط التي سيجري عليها التفاوض وبرؤيه شامله لشكل الحل وكل الخطوات اللاحقة التي ستتبعه.
بغير ذلك نحن نسلم رأس الثورة الى النظام تحت شعار وقف الدم.
لا يقل لي أحد ما هو بديل التفاوض إذا رفضنا.
انا اسأل الجميع تفضل ان تموت راكعا ام واقفا تقاوم بعينيك رصاص مجرم ؟؟
نحن نريد حل سياسي وهذا اكيد. لكن نريد حل عادل يحاسب المجرم على الجريمة بغير ذلك لا يظن أحد ولا يتوهم بان الثورة ستسلم راسها لعصابة بشار اسد.
وعلى المجتمع الدولي ان يقف امام تقاعسه وشراكته للمجرم.
لن اعطي رخصه للمجتمع الدولي عن سكوته واجلس الى طاوله مفاوضات اتكلم طوال ايام بينما يسقط على داريا 22 برميل متفجر.
تبا للسلام والتفاوض إذا لم يكن عادلا وواضحا".
انتهى النقل عن الزميل المصري، ونعتقد أن موقفه يتقاطعُ مع تفكير كثيرٍ من السوريين، كما هي الحال مع مَطالبهِ بوقفة مراجعةٍ جذرية.
من هنا، يكون غريباً جداً ومقلقاً جداً أن نجد السيد هادي البحرة، كبير المفاوضين، يتحدث في نهاية الجولة الأولى عن أن "المعارضة أحرزت تقدما عبر إعادة طرح بنود مؤتمر "جنيف1"، مشيرا إلى أن مفاوضات جنيف لن تكون سهلة، ولاسيما أن القضايا المطروحة شائكة"؟!
فهل أصبح مجرد طرح بنود جنيف1 إنجازاً في نظر ائتلافنا العتيد؟ وهل اكتشف رئيس الوفد الآن أن القضايا المطروحة شائكة؟ وهل سمع السيد البحرة أو غيره بتصريح الإبراهيمي قبل تصريحه بقليل قائلاً "إنه لا يتوقع تحقيق أي إنجاز مهم في الجولة الأولى من محادثات سوريا، التي تنتهي يوم الجمعة، لكنه يأمل في ثمار أكبر من الجولة الثانية التي تبدأ بعد ذلك بحوالي أسبوع".
لانعرف، بصراحة، هل وافق وفد الائتلاف على (إجازة) عشرة أيام للاستجمام بعد الإنجازات، أم تم استغلالها فعلاً لكثيرٍ من المراجعات والعودة إلى القواعد كما طلب السيد المصري أعلاه.
نقول هذا رغم منطقية التحليل بأن مجرد الموافقة المباشرة على الجولة الثانية هو نجاحٌ سياسيٌ كبير للنظام في ظل وحشيته، مع ضمانةٍ مجانيةٍ قدمها له الوفد بأنه عائد إلى التفاوض، رغم كل تلك الوحشية التي بدأت خلال المفاوضات وتصاعدت بشكلٍ مخيف بعد الجولة الأولى منها، وفي غياب أي تهديدات وضغوط وشروط، ولو من باب المناورة السياسية.
مانعرفه ويعرفه السوريون أن ثمة شحنة سلاح روسية وصلت أو ستصل إلى النظام، وأن الإدارة الأمريكية تتخبط في سياستها المتعلقة بسوريا حسب تسريبات جون ماكين من لقائه وزملائه مع وزير الخارجية كيري، رغم نفي الإدارة لهذا الأمر، وهو أمرٌ روتيني في الساحة السياسية الأمريكية. وهذا يُرجح التحليل بأن المجتمع الدولي يريد لجنيف أن تكون هدفاً بحد ذاتها، كعملية سياسية طويلة المدى لايعلم ماسينتجُ عنها إلا الله، لكنه يرتاحُ فيها من الهم السوري، ويوحي بأنه قام بواجبه الأخلاقي والسياسي والقانوني من خلال بدئها واستمرارها.
مانعرفه ويعرفه السوريون، قبل ذلك وبعده، أن قرابة 400 سوري ارتفعوا شهداءَ خلال الجولة الأولى، وأن ضعفهم تقريباً ارتفع شهيداً خلال (فترة الاستراحة).. هذا غير مئات الجرحى والأسرى وآلاف المشردين.
سيعود وفد الائتلاف إلى قاعات التفاوض بعد ثلاثة أيام، لكن أداءه في الجولة الثانية سيكون مفرقَ طريق في مسيرته ومسيرة الثورة، وإذا كان قد قام بما يجب عليه القيام به من تحضير فقد تكون هذه فرصةً لقلب الطاولة على النظام، وإن كان الأغلب أن تكون فرصةً أخيرة.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية