منذ ثلاث سنوات، وفي سوريا جمهوريتان إن صح التعبير.. جمهورية الثورة وجمهورية الأسد، لكل منهما "سكان" و"علم" و"جيش" وفوق كل ذلك صفحات فيسبوكية وتويترية تدافع عن وجهة نظرها، بعبارات ومصطلحات خاصة بـ"شعب" كل جمهورية.
كان الفرز واضحا، والتباين في تناول أي قضية جليا، والالتقاء على توصيف حدث ما شبه مستحيل، فصارت قراءة أول كلمتين أو ثلاث من أي منشور على هذه الصفحة أو تلك دليلك لمعرفة "توجهها"، حتى ولو لم تلتفت إلى وصف تلك الصفحة أو عنوانها.. وبقي هذا ساريا، حتى ولد في جمهورية الثورة وجمهورية الأسد مولود واحد وفي نفس الوقت، أطلق عليه بعض سكان الجمهورية الأولى اسم "هدنة"، فيما سماه سكان الجمهورية الثانية "مصالحة وطنية".
أراد بعض سكان جمهورية الثورة الاحتفاء بالمولود على طريقتهم، بوصفه "وجه الخير" الذي جلب معه فتح الطرق وإدخال الأغذية، وقد كانت أهم أهداف الثورة عندما خرج الهاتفون لها بمئات الآلاف، وأسمى غايات الكتائب والألوية عندما تم تشكيلها!.
لم يسمح بعض سكان جمهورية الثورة لأحد بالتساؤل عن "شرعية" المولود ومن هو أبوه الحقيقي، فالأصوات التي تتساءل عن هذا نشاز، وفيها رائحة تخوين، أو أن صاحبها جاهل ومتعام وقليل إحساس، فهو لم يعايش ما حصل من جوع وقهر، زادهما خذلان القريب والبعيد إيلاما.
ارتاب سكان آخرون في جمهورية الثورة بالمولود، ونسجوا حوله الروايات والأقاويل، وشككوا بنسبه، بل وحذروا من الشؤم الذي سيجلبه معه، فانبرى المحتفون ليؤكدوا أن شيئا ما لم يتغير، كل ما كان قبل المولود بقي على ما هو عليه بعد قدومه، وما هي إلا استراحة تمتد فيها يد للمصافحة، وتبقى أخرى على الزناد.
كان بعض سكان جمهورية الثورة يحاولون تصديق هذا الشعار، رغم تحفظهم على أن تمتد يد ثائر لمصافحة يد ملطخة بدم الثوار.. جاهدوا كثيرا لتقبل المولود الجديد، وخادعوا كل مجسات الحدس في ضمائرهم، وخدروا كل المواضع التي لدغهم "العقرب" فيها مئات المرات.
هبت رياح جديدة، أريد فيها لرائحة العودة إلى البيت ولو كان مجرد أنقاض أن تطغى على روائح الجثث التي ما زالت في بعض الأزقة، أو تلك التي يحرقها سكان جمهورية الأسد بالآلاف، حتى طغت رائحة العودة في بعض الأنوف على أطيب ريح عرفها السوريون.. ريح شهدائهم.
ذهبت "السكرة" عن البعض، نكأ بيته المدمر أو المنهوب أوجاعه، وفتحت زيارة قبر صديقه الشهيد جراحه، وأعاد مروره على الحواجز تنشيط ذاكرة "الذل"، لكن هناك من بقي يلوح له بالمولود الجديد.. هيه، دع جراحك وراءك، أنها ماضيك، وهذا مستقبلك!
حلم العودة وإحياء الذكريات ولو على الأشلاء والخراب، غطى على كل رائحة، حتى فاحت رائحة تغطي على كل شيء، ولايغطي عليها شي.. فاحت من "تنسيقيات ثورية" لم يعد لها من شغل سوى التهليل للمولود الجديد، صار قدومه الهدف والحفاظ عليه الغاية، وكل شيء بعدها يهون.
اختفت كلمات من قبيل الطاغية والنظام المجرم، واختفت حتى أخبار البلدات والمدن المجاورة، وأصبحت التنسيقيات التي كانت تشتكي "خذلان" السوريين لمناطقها وعدم مدها بالسلاح والغذاء، هي نفس التنسيقيات التي تبخل على المدن المقصوفة بالبراميل بمنشور يدين، أو صورة تجسد الجريمة!!
تحولت تلك التنسيقيات "الثورية" إلى صفحات لنشر الخواطر الأدبية، وبث الأدعية، والكلام عن التفاؤل، وتقديم تعريف مختلف للفشل أو الإنجاز، بل ونشر صور أطفال يلعبون وسط الدمار، بوصفهم شعلة الأمل التي تنطلق من قلب الظلام!!.. وهكذا داوليك، فلا حرية ولاطغيان، ولا سجن ولا سجان، ولا قصفا همجيا يقابله صمود، ولاعدوا حاقدا ولا عدوان... تنسيقية ثورية على المقاس الأسدي.. "والله يفرج ويطفيها بنوره"!
وبالمقابل، ما الذي تغير لدى سكان "جمهورية الأسد"، وما الأثر الذي تركه المولود الجديد عليهم، وهل شهدنا أو سنشهد ولادة صفحات أسدية على المقاس الثوري؟ أشك، بل أجزم بلا، ومن كان لديه مثل هذه الصفحات فليدلني عليها، وله مني جزيل الشكر.
إيثار عبدالحق - زمان الوصل - خاص
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية