تداعيات حول المئذنة.. والجامع

1- الإحساس بالكارثة السورية الكاملة يقتضي منّي أن أكون سوريّاً، لا وصف آخر له. وهذا السوريّ الحقيقي من حقه بشكل فطري وعفوي ومن غير أي مسبقاتٍ، أن يشعر بكامل الذل والإهانة من التدمير، جزئيا أو كليا، لأي مكانٍ أصبح داخلاً في الشخصية السورية بكل مستوياتها وأبعادها، وهذا لا يحتاج إلى براهين ومبررات، ولكن مع الأسف ثمة من يمارس الانتقائيةَ المريضة في إعلانهِ الوقوف ضد تدمير هذا المكان، ويقف صامتاً أمام تدمير مكان آخر، لايختلف في قيمته المعنوية والتاريخية والرمزية عن أي مكان آخر...
قصفُ جامع خالد في حمص، هو اعتداء حقير ورخيصٌ مهما كانت الأسبابُ، على مكوّنٍ روحيّ وذهنيّ ومعنويّ للملايين من البشر، هو نفسه القصف والتدمير لكنيسة، أو لكنيس يهوديّ حتى في حال وجوده في سوريا، أو لمتحف، أو لموقع أثريّ. كل ذلك يدخل في باب التشويه المتعمد والمدروس للذاكرة السورية، وتفتيتها طائفياً أكثر مما هي مفتتة.
يأتي مَن يأتي من خارج سوريا لأجل حراسة مقام السيدة زينب، وهناك من يبرر من السوريّين له ذلك، هم أنفسهم السوريون الذين يتعامون عن قصف جامع خالد. هذه لحظةٌ طائفية واضحة المعالم ولا تحتاج لتوصيف. وقع في شركها سوريون مع الأسف، لديهم قدرة غريبة على ممارسة تقسيم سوريا في أذهانهم.
كيف أقف ضدّ قصف بيت جدّ جاري فلان، وأبرر قصف بيت جد جاري فلان الآخر؟ إن قصف هذه الأماكن هو قصفٌ للمعنى الطبيعي الذي يدخل في تركيبة الشخصية الاجتماعية السورية، ولعبٌ بمكوناتها واستدراجها إلى القذارة الطائفية.
حين يقال خالد بن الوليد في حمص فهذا يعني تاريخا كاملاً من الحياة والذكريات والعمارة الإسلامية العربية، هذا يعني استحضار مبنى جماليّ ومعنى شديد الحساسية في المجتمع السوري. وهذا قولٌ لا يتعارضُ مع موقف علمانيّ من الدين، بل هو من أسس الموقف العلمانيّ، الذي يشتغل في احترام المعتقدات، والدفاع عن المتدينين ضمن الدولة. هذا موقفٌ من الروح، من الذاكرة، من محمولٍ حضاريّ أثريّ لا يخصّ ديناً ولا اعتقاداً وحده. ووقائعُ كثيرةٌ كانت تدلّ على مشاركة غير المسلمين في المظاهرات الأولى في حمص، وكانوا يدخلون الجامع، أو ينتظرونَ زملاءهم في الخارج ريثما تنتهي الصلاة. وكأنهم بذلك استعادوا بصورة عفوية معنى الجامع الذي يجمع الناسَ. كما كان يجمعُ التيارات الفلسفية في العصور العباسية بشكل أوضح.
الاعتداء على المئذنة صورةٌ طبق الأصل عن الاعتداء الرخيص على المواقع الأثرية، ويكملُ الاعتداءَ على البشر والأرض، يكملُ احتقار قيمة الإنسان، التي لم يعمل عليها ولا مرّةً نظامُ الاستبداد الأسديّ، لأنه يستمد معناه من غياب القيمة الإنسانية.
تدمير جزء من جامع خالد لا يختلف عن تدمير جزء من كنيسة أم الزنار، لا يختلف عن تدمير أي معلم أثري آخر نرى في الحقائق المصورة كيف يتم ذلك.
وبالمناسبة: لقد شارك معماريون مسيحيون من حمص في بناء جامع خالد، لأن الطابع المعقد لصناعة وبناء الحجر المنحوت الأبيض والأسود، كان يحتاج لمهارات معمارية عرفت لدى بعض الفنيين المسيحيين في حمص... وإن لم أكن مخطئاً فقد كان من بينهم شخص من آل خزام.
2- إنّ خروج المظاهرة من الجامع لم يكن سبباً مقنعاً من حيث العمق، لكي يرفض شاعرٌ حديثٌ هذه المظاهرات، وكأنّ هناك أماكن أخرى جماعية يسمح فيها بالتجمع للانطلاق في مظاهرة، وكانّ سوريا الحديثة الأسديّةَ كانت دولةً تسمح أصلاً بالتظاهر، من دور السينما والأوبرا والملاعب الرياضية! إن رمزية الجامع في ثقافتنا العربية لم تكن حصراً بالدين، بل كانت أروقة جوامع بغداد والكوفة منابرَ للفسلفة وعلم الكلام والجدل حتى في قضايا إسلامية ذات طابعٍ صداميّ ومحرجٍ، وفيما بعدُ فُرِّغَ الجامعُ من معناه الثقافي، وسُرقَ هو ويوم الجمعة كما يعبر الصادق النيهوم...
3- حين ينظر السوريون الأحرار إلى المئذنة، يرفعون رؤوسهم إلى السماء، أما حين ينظرُ العبيد إلى ضريحِ الطاغيةِ الراحل، ينكّسون رؤوسهم إلى أسفل سافلين.
"تعالوا إلى كلمةٍ سماءٍ بيننا" / آخرُ ما قالته المئذنةُ...
حين كنتُ صغيراً كنت أعتقد أن المؤذّن يصعد إلى المئذنة ويعلن الأذان منها، ثم اكتشفتُ أن المؤذّن في مكان آخر... مؤذّنُ الثورة أيضاً ليس في مئذنة جامع العمري، أيها المعتوه، مؤذّنُ الثورة في مكان آخر...وصوته مسموعٌ من غير مئذنة. قصفُ المآذن وتهديمها، لن يمنع السوريين، كثيراً من السّوريين، من النظر إلى السماء...
ربّما ظنّ هذا الولدُ المعتوه أن طُـولَه سيحلّ محلّ المئذنة مثلاً؟
حسناً، "الله يقصفك إذاً "... (تقول الأمهات والجدات بثياب صلاتهن الأبيض... المدمّى).
قصف المآذن الذاهبة في السماء، جريمةٌ ترقى لأن تكون جريمةً ضدّ زرقة السماء. ولكن هذا الطاغية البشع، الغارق حتى جذوره في القبح والنّتن، يرى أن المئذنةَ تشكّ نفسه في الصميم... تخترقها لتعيدها إلى عجينتها الأولى من الوضاعة والسفالة. ومن هو سافلٌ لايتحمّل ارتفاع أي شيء..
طغاةٌ ماهرون في تقبيل الأطفال وحملهم، والضحك لكاميرات المخابرات، ماهرون أيضاً في الانتقام من كل ما هو عالٍ وشامخ، ويسبق أعمارهم الملوثة بالوسخ التاريخي.
طغاةٌ أسماؤهم معروفةٌ، ولكن يبدو أن أصولهم غير معروفة، أصول يكشفها اليوم حقدهم المزمن على العلوّ، طغاةٌ أصولهم بقيت في الحضيض منذ ولدوا في الحضيض.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية