أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

من الدراسة إلى الجبهة...قصة ناشط اعتنق "السلمية" فقذف به عنف النظام إلى "الجبهات"

صورة تعبيرية لمقاتل في حلب - الشخص موضوع التقرير طلب عدم نشر صورته

يترك جامعته دون قرار مسبق؛ يمر من أمام مبنى كلية الآثار والمتاحف، كغريب عن أروقتها، ليجد نفسه في الصفوف الأمامية للمعركة، معركته هو لا أحد سواه، يرفع الكتب في خزانة فتعلوها الغبار، يشعل المظاهرة الأولى بحماسه، بصوته، هو صوت السوري، حين يقول:"لا للحصار ولا لقتل المدنيين"، لا أحد يسمعه فيحمل السلاح كخيار أخير، في لحظة تغيب معها كل الخيارات، كل النداءات وكل الآمال بنجاح السلمية.

لا يعرف مصطفى سلطان (25عاما)، أدنى معلومة عن كواليس المعركة، خطوطها ونيرانها، ترك أهله في الريف الحلبي، الذي لم يكن يومها قد أعلن الثورة على النظام الحاكم، ترك أباً يعمل في مشغل خياطة وأماً تعمل في سلك التدريس، لتكن حمص محطته الأولى ليشارك أهلها معاناتهم، حمص حيث نشأته الأولى في حي "جب الجندلي" التحق بكتيبة تشكلت هناك على يد شباب الحي، حمل السلاح لأول مرة، فأتقن حمله. 

نكهتها الخاصة
أشهر في ميدان حمص المحاصرة، ليعود بعدها، مرة أخرى، إلى حلب حيث الحديث عن بدايات الثورة السلمية في الريف، ليكون جزءاً من الثورة السلمية، فالسلمية برأيه "لها نكهتها الخاصة"، يريد أن يثبت للعالم أجمع أنّه لايحلم بأكثر من العيش الكريم، لا يريد القتل والعنف، غير أنّ مجريات المعركة وضعته في خانة أخرى مختلفة تماما، ماذا يفعل حيال نظام رمى شقيقته بالنار، فاستشهدت؟ شقيقة تفوقت في كليات الأسد وجامعاته، وحصلت على الإجازة في الآداب، فيتفوق عليها الابن بقصف منزلها الكائن في إحدى قرى حلب فتسقط وابنها شهدين في معركة الكرامة.

لواء التوحيد 
ينضم بعدها إلى صفوف "لواء التوحيد" أحد أكبر القوى المقاتلة في حلب، يحمل سلاحين (كاميرا تصوير ـ بندقية) فيصفه العالم بالإرهابي، وبأنه ضمن سياق حركة مسلحة وتمرد يدار من الخارج، رغم أنه أراد السلمية إلى ما لا نهاية، في حين أراد العالم له البقاء وراء مدفع محلي الصنع يقتل به من يشاء، حتى من لم يعرفهم يوماً.

يدافع عن سلميته حتى اللحظة الأخيرة، يفضل البقاء في مقر للإعلاميين في حلب، لجأ إلى تصوير ما يجري، تصوير لحظات المعركة، وتوثيقها بجدارة، بمهنية عالية، ينشرها يوزعها عبر الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي، فيخسر هنا مجددا فهذه المرة رفاقه، وأولاد حيه، يقتلون برصاص النظام وبقصفه المتواصل على المقرات والأبنية السكنية، ثم يعود إلى حمل السلاح، يحاول تقبل فكرة أنه مقاتل، يحب اللواء واللواء يحبه؛ يتقرب من قياداته عله يفهم فكرة العسكرة، يسأل قائده الأكثر شهرة ومعرفة وثقة، عبد القادر صالح، يسأله عن جدوى المعركة؟

يكتب في مذكراته: "على كتف من ستبكي المعارك حي تتعب؟"، يبقى في خندق لا يريده في قرارة نفسه، غير أنه خياره الأوحد في معركة البقاء والنصر، خيار قائده الذي قال له يوماً: " يجب أن ندافع عن أعراضنا وأرضنا وأولادنا". 

هي حرب الدفاع أصلاً، في ذاك المكان البارد يموت القائد الصالح؛ وتستمر المعارك وتضيق الخيارات.
تطول أمد الحرب القذرة ويستمر القصف وتشتد وتيرته، تخلط الأوراق، وتدخل جهات أجنبية، ينسحب من كل هذا الوسط ليسلم سلاحه إلى قيادة الجبهة ليبقى حبيس صراع ينتهك جسده النحيل وفكره المضطرب ونفسيته، من يحارب من؟ ومن يقتل من؟، يعود إلى العمل السلمي في إحدى الصحف التابعة لتنسيقيات الثورة المحلية، ويكتب.. يحاول تذكر آدميته وأيامه القديمة قبل أن تأتي النيران على كل شيء ..كل شيء.

يترك المدينة برمتها وينسحب إلى مكان بعيد خلف الحدود، يبتعد عن صراعات ومعارك لم يصنعها ولم يرِدها يوماً. من الصعب أن يختار المرء بين الموت والموت، ومقبول أن تنجح في نقيضين، السلم والحرب، تثبت جدارة لا حدود لها، يبقى بعيداً عن أرض اللعنات، حلب.

من حرب إلى حرب
يختار أن يدير بعض صفحات الثورة، يقضي صباحاته ومساءاته في توثيق أعداد شهداء وجرحى الحرب المفروضة عليه، يقول لي:"أوثق أعداد الشهداء"، فأسأله: هل تنظم جدولاً، بعنوان "شهداء لواء التوحيد"؟ يتجاهل السؤال، ولا يجيب، لا أحد غيره يفعل هذا يومياً، يقاتل ويعمل بضمير في صحف الثورة، يوثق الموت، وفي المساء يشتري الخبز من الأفران ويوزعه على جيرانه.

يقدم مصطفى سلطان للبلاد مستقبله فتسلبه إنسانيته، يثبت إرادة صلبة في المعتقل، فتأخذ منه شقيقته الكبرى، كاختبار أخير لصبره، يدافع عن قيادة الجبهة التي أخلص لها، فيقسى الأطباء في علاج ابنة أخته الصغيرة، ويتركوها يومين دون عمل جراحي بحجة نقص الكوادر بعد هروبهم إلى تركيا على خلفية اشتداد وتيرة القصف على حلب، ولم تكن إصابته البالغة في يده اليسار آخر خساراته في ثورة الحرية..فيرحل بعيداً إلى المخيم القريب الذي يبعد ساعتين ونصف عن حمام الدم السوري، يومان من التأمل فيما يحدث، يتأمل حربا لا يدفع فاتورتها إلا الصغار ليبقى الكبار خلف المشهد وربما صانعوه، ينظر إلى تلك الأعلام المعلقة خلفه (سوداء، خضراء، مختلفة الألوان ..) يعرف أنّ الثورة أكبر تورط، أكبر التزام يقدم عليه الإنسان، ليعود صبيحة هذا اليوم إلى حلب القديمة، البلدة الأولى التي عاش التجربة المرة فيها، أطلق فيها شرارة الثورة، خبر تفاصيل الظلم وحقائق لا يعرفها غيره، يقول لي:"تعاتبني أمي على رحيلي".

شام محمد - زمان الوصل - خاص
(103)    هل أعجبتك المقالة (124)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي