بينما تعمل الأجهزة الإعلامية على تغطية وقائع محادثات التفاوض في مونترو وتحتل تصريحات الفرق التفاوضية وتحليلاتها مساحة معتبرة على الصفحات الأولى في الصحف العربية والسورية، تجري في مدينة جينيف منذ شهر أوكتوبر الماضي في 2013 مفاوضات هادئة ومريحة بين فرق من رجال الأعمال التي تمثل المعارضة وتلك التي تمثل طبقة الأغنياء الجدد في النظام.
حيث يعمل المركز السويسري للحوار (Centre for Humanitarian Dialogue) في جينيف منذ شهر أكتوبر 2013 على تيسير وإستضافة حوار سري في جينيف يضم رجال أعمال من طرف النظام ورجال أعمال من طرف المعارضة وتشارك به الولايات المتحدة وروسيا وإيران. فقد قام هذا المركز فيما مضى بجهود مشابهة في السودان ونيبال وأندونسيا وغيرها من الدول التي تشهد نزاعات عنيفة، حيث يقوم بنشاطاته بعيدا عن البيروقراطية المعروفة للمؤتمرات الدولية.
استطاع المركز تنظيم ٥ جلسات حوار رسمية في 2013 في قصر "الشياو دي بوسي" (Château de Bossey) بالقرب من مدينة جينيف، ولا زالت الحوارات مستمرة حتى اليوم.
تهدف هذه الحوارات وفقا للقيّمين عليها إلى كسر الجليد بين النظام والمعارضة عن طريق حوار المصالح. فرجال الأعمال لدى الطرفين يمثلون المصالح المباشرة التي يدافع عنها كل طرف في نهاية المطاف واتفاقهم على حلول مقبولة قد يسهل العملية السياسية أو قد يضعها على السكة الصحيحة التي قد توصلها إلى حل مقبول وقابل للتنفيذ والحياة.
تقول المصادر بأن فرق التفاوض تجاوزت مرحلة بناء الثقة التي يتحدث عنها الإبراهيمي في مونترو حيث إن الفريقين ذهبا سوية للتسوق عدة مرات قبيل أعياد الميلاد. "في أول لقاء لنا كانت الأجواء مسممة وفي اللقاء الثاني بدأنا بالحديث المباشر مع بعض وبعد اللقاء الثالث ذهبنا سوية للتسوق في جينيف" يقول أحد المشاركين.
الولايات المتحدة مهتمة بهذا المسار حيث ترى أن النتائج ستكون عملية وتنطوي على أفكار قابلة للتنفيذ بعيدا عن الشعارات العقيمة، كما أنه يحدوها الأمل بتحويل هذه النتائج إلى ناتج سياسي قادر على تحقيق حل مستدام وقابل للحياة.
كما أن جيفري فيلتمان إضافة إلى الأخضر الإبراهيمي نيابة عن الأمم المتحدة يتابعان ما يجري هناك باهتمام.
روسيا مهتمة أيضا بالوصول إلى حل يحفظ بنية النظام بما يحفظ لها مصالحها السياسية والعسكرية والاقتصادية وبما يحفظ لها أيضا ديونها التي بلغت المليارات خلال السنوات الثلاثة الأخيرة والتي قد تذهب بلا رجعة في حال انتصار المعارضة في حربها ضد النظام. ويحفظ لها امتيازات في التنقيب عن النفط والغاز في الساحل السوري.
أما إيران التي أعيتها واستنزفتها الأزمة السورية مهتمة أيضا بالوصول إلى حل سياسي يحفظ لها مصالحها. فهي جزء أساسي من المشكلة وبدون حماية مصالحها لا يمكن الوصول إلى حل مستدام وبالتالي فقد فرضت نفسها كجزء أساسي من أي حل مستقبلي، ومن هنا يمكن فهم مشاركتها في تلك المحادثات.
هل سيكتب لهذه التفاوضات النجاح؟ يجيب المصدر بإنه يرى هذه المفاوضات كأحد المحاولات التي إن لم تؤدِّ إلى حل فإنها ستغني خبرتنا بكيفية الوصول إلى حل سياسي سليم.
جميع التحركات الدولية تشير اليوم إلى أن القوى والدول الفاعلة والمؤثرة في الأزمة السورية باتت اليوم أقرب إلى تفاهم يضمن لها تقاسم النفوذ والمصالح. فبقاء بنية النظام هو مصلحة مشتركة بينها جميعا، كما أن تأمين مخرج آمن لبشار الأسد بهدف وضع حد للحرب الطاحنة في سوريا أصبح اليوم أقرب للقبول من طرف حلفاء النظام.
يبقى الشكل التنفيذي الأنسب وطريقة الإخراج لتحقيق هذه المصالح هو محط التفاوض والتباحث بين هذه الدول، بينما يمكن لفرق التفاوض في مونترو وجينيف التفاهم على ما يتبقى من قضايا: كفتح ممرات إنسانية والتفاوض على المعتقلين وربما الاتفاق على أسماء المشاركين في الجسم الانتقالي الموعود.
على الأغلب لن تثمر هذه المفاوضات الآن عن ناتج عملي فوري، حيث إن ترتيب التفاصيل الدقية مسألة تحتاج وقت طويل، حيث قدر السفير فورد أنه قد تحتاج حوالي عام. ولكن حتى لو لم تستطع هذه المفاوضات إحراز أي تقدم ملموس فإنها بكل تأكيد ستكون من وجهة نظر القيّمين عليها ورعاتها تجربة مهمة تختبر حدود كل طرف من الأطراف وستعطي رؤيا عن الإمكانيات والأفق المتاح للتقارب بين بعض شخصيات النظام وشخصيات المعارضة وكذلك اختبار إمكانية تلاقي المصالح العامة لكلا الشريحتين. كما أنها ستؤسس لتجربة جديدة قد تكون أكثر نجاحا في المستقبل في حين تستمر معاناة الملايين بانتظار حل لمأساتهم.
ليس سرا أن المعارضة السورية في الخارج ممثلة اليوم في الائتلاف وقبله في المجلس الوطني فقدت خلال العام الماضي أغلب عوامل قوتها، كما فقدت سندها الشعبي، حيث إن أطيافا واسعة من الداخل السوري أصبحت تشكك في أهلية وشرعية تمثيل هذه المعارضة للثورة. فالائتلاف كمؤسسة يعاني من صعوبات داخلية بنيوية ناجمة عن سوء تصميمه الإداري وفقدانه للتجانس وكذلك يعاني من غياب الفهم المشترك بين أعضائه لدورهم ووظيفتهم، مما جعل منه كيانا معطلا بدل أن يكون منتجا للسياسات والمبادرات السياسية. أضف إلى ذلك افتقاد الائتلاف للخطة والرؤيا والبرنامج التنفيذي العملي المتفق عليه كنتيجة لكل ماسبق، مما ساهم في تكريس وضع العطالة التي سبقه بها المجلس الوطني أيضا. وبالتالي أدت هذه الأسباب في مجملها إلى انتقال صناعة المبادرات وصياغة الحلول السياسية للدول العظمى بالكامل، حيث تقلص دور المعارضة السورية الخارجية إلى دور الشاهد على صناعة الحدث لتصبح هي نفسها أحد مواضيعه، دون امتلاك القدرة الحقيقية على التأثير في مجرى الأحداث داخليا أو خارجيا.
في هذه الأثناء لا يبقى أمام القوى الفاعلة في الداخل السوري سوى الاعتماد على الذات من خلال العمل المستمر على تنظيم صفوفها وزيادة التنسيق بين مكوناتها من أجل التعويض عن ضعف القدرة على بناء التحالفات والتأثير خارجيا من خلال رفع الفعالية وتحقيق الإنجازات داخليا. وكذلك من أجل العمل على فرز وإنتاج قيادات من رحم الثورة قادرة على إدارة المرحلة. هذا يتطلب بدوره خبرات تراكمية تحتاج المزيد من الوقت، ولكن استعانة المكونات الكبرى في الداخل بالخبراء الإداريين والكوادر المؤهلة قد يوفر الكثير من الوقت ويسرع عملية مراكمة الخبرات من خلال توجيه مسارها.
بدون العمل الممنهج المدروس لامتلاك أدوات القوة والتأثير فإننا كسوريين سنبقى مسرحا وساحة للأحداث السياسية دون أن نمتلك القدرة على صناعتها أو التأثير فيها، مما سيطيل أمد معاناتنا لفترات طويلة.
المعلومات في هذه المقالة تستند إلى صحيفة الشبيغل العدد الرابع والبعض الآخر من مصادر خاصة مطلعة*.
غياث بلال - أكاديمي وكاتب سوري - مشاركة لـ"زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية