عبثاً كنت أهزّ شجرة التوت !
كان جِذعها ثخيناً، لا تهزه الريح ولا أصابعي النحيلة، فكنتُ أضرب أغصانها الكثيفة بعصا، لتتساقط حبّاتها الملوّنة كالياقوت. استغفلت يوماً عيني أمّ مؤمن، وحفرت على الجذع بقلاّمة الأظافر حرف ( غ )، وكتبت تحته تاريخ ذلك اليوم، ثمّ طوّقت الشجرة بذراعيّ، وقبّلت موضع الحرف قبلةً خاطفةً.
ضحك صفوح، وهمس في أذني: " ستحلو حبّات التوت أكثر، إن لم تكتشف عمّتي اسم غادة على جذعها ".
تسابقنا في جمع حبّات التوت المتناثرة على الأرض حتّى أتينا عليها، ولكنّنا لم نأكل حبّةً واحدةً منها، فهو لا يحبّ إلاّ التوت الأبيض، وأنا لا أحبّ إلاّ أن أقاسم غادة التوت والأحلام وساندويش الزعتر.. وفي طريق العودة كنّا ندلف إلى مقبرة ظهر المغارة، وكان صفوح ينثر حبّات التوت على قبر أمّه خانم بَكّو، ويقرأ الفاتحة على روحها، وهو يجهش بالبكاء.
كفكفت دموعه الساخنة، وأخذت بيده، أجرّه إلى الشارع، والموتُ يتربّص بنا قبوراً سوداء، لا نهايةَ لها، ولمّا وصلنا بوّابة المقبرة ضممته إلى صدري، ورحنا نبكي أمّه وأمّي معاً. فخانم بكّو أرضعتني حين انقطع حليب أمّي يوماً، فسَرَت روح التركمان في عروقي، وصرت أخاً لأولادها الخمسة، وحين ماتت في يوم ماطر بكيتها بكاءً مريراً، وأخذت ألعن الموت، وأتخيّله وحشاً شرساً، يفترس الأمهات، ولكنّه مثلي يتهيّب الآباء متجهّمي الوجوه كوجه أبي ووجه أبي صفوح ووجوه رجال الحارة..
أوقفني في عرض الطريق، وسألني:
- " نسيتَ أنّها تحبّ التوت الشاميّ ؟ ".
فقلت له:
- " غداً تكبر حبّات التوت، وتصبح أشجاراً ".
حين وصلنا رأس الحارة كان المساء قد دهم بيوتها وزوابيقها الضيّقة ووجوه أهلها الصفراء، حتّى كأنّها مقبرة ظهر المغارة، أو كأنّها ملاءة جدّتي أمّ محيي الدين، تتلفّع بها، فلا تبدو منها قلامة ظفر. دلفنا إلى بيتنا، وأقعينا في عتبته، نتقاسم حبّات التوت في ضوء المصباح الذي علّقه أبي على الباب، حتّى ترى أمّي طريقها بعد أن عشا بصرها. وما هي إلاّ لحظات حتّى لمحنا سيّارةً، تمخر عباب الظلمة، وسرعان ما تقف أمام بيت صديقي صفوح، نزل منها أبوه، وهو يرتدي بزّةً سوداء، وتبعته امرأة عرجاء ملفّعة بالسواد، جعلت قلب صفوح يرتعد حنقاً وهلعاً..
همست في أذنه:
- " أبوك لا يغمض له جفن من غير امرأة ".
فقال لي، وهو ينتفض كطائر ذبيح:
- " لم تمض سوى أيّام على أربعين أمّي ! ".
قلت له:
- " إذا كان أبوك قد صبر على ثعبانه أربعين يوماً فالرجال الفحول لا يصبرون على فحيح ثعابينهم ليلةً واحدةً. عندما يرفع ثعبانك رأسه قليلاً من بين ساقيك ستقبض عليه بجِماع يدك، وستلتمس العذر لأبيك ".
فقال لي:
- " أبي رجل بلا قلب ".
لم يكن أبوه ولا أبي بلا قلب، ولكنّ قلوب آبائنا قدّت من حديد أو حجر، وهم يواجهون الزلزال تلو الزلزال، فأبي الذي تخرّج في ( الميتم الإسلاميّ ) شيوعيّاً ظلّ طوال عمره ملاحقاً من المخابرات والدائنين وإخوته اليتامى، فما كنّا نراه - ونحن صغار - إلاّ جنحاً من الليل، يتسلّل خلسةً إلى سرير أمّي، فلا يكاد صريره يهدأ حتّى أذان الصبح، وأبوه يتيم الأبوين، ربّته أخته الكبيرة أمّ مؤمن، وكأنّما قد ربّته لبوة، ونشأ أجير سمكريّ، تردّد زمناً على ( دار الفقراء ) في جامع الزاوية، ثمّ انصرف عنها أيّام الوحدة حين راح رجال عبد الناصر يلاحقون الأخوان والبعثيّين والشيوعيّين.. حتّى لم يبق في المدينة إلاّ ( الكرى خانه ) ملجأً للرجال الباحثين عن الحريّة والمتعة الرخيصة..
قبض صفوح على حبّات التوت، واعتصرها بعنف دماً لزجاً، صبغ يديه ووجهه وثيابه، وهو يرقأ دموعه الساخنة، وهبّ واقفاً كرمح، وهو يرفع قبضته الدامية في وجهي مهدّداً:
- " لن أدعها تنام في سرير أمّي ".
- " اطمئنْ، فأبوك لن يدعها تنام الليلة ".
رمى حبّات التوت المهروسة على الأرض، وقال لي:
- " سأعود إلى المقبرة ".
- " ماذا ستفعل في المقبرة، أيّها المجنون ؟ ".
- " سأنام إلى جوار أمّي ".
- " لا يجرؤ على النوم في المقابر إلاّ الموتى ".
أخذت بتلابيبه، أجرّه إلى باب دارهم، وهو يراوغ، ولمّا تمزّق قميصه المصبوغ بعصارة التوت أفلت من يدي، وهبّ يركض في عتمة الليل، لا يلوي على أحد، وأنا أركض وراءه، ولكنّه حين وصل المقبرة توقّف على بابها لاهثاً، واشرأبّ إلى قبر أمّه البعيد بعينين دامعتين، لا يجرؤ على الدخول إليه خطوةً واحدةً، فالعتمة تملأ أرجاء المقبرة، وتحيل قبورها فزّاعات، تجفل القلوب. وبينما كان يمسك الباب الحديديّ بيد مرتجفة، ويبكي بكاءً مسموعاً، خرج الشيخ سميح حارس المقبرة من غرفته، وهو يسعل سعالاً حادّاً، جعله ينتفض كملسوع، ويلتصق بي مذعوراً خائفاً. تلفّت الشيخ سميح حواليه بعينين مغمضتين، ثمّ قفل عائداً إلى غرفته.
همست في أذني صفوح، وهو ما زال يتشبّث بقميصي:
- " لا يجرؤ على معاشرة الموتى إلاّ الشيخ سميح ".
فقال لي:
- " عِشْرة الموتى أهون من عشرة الأحياء ".
حين أطفأ الشيخ سميح مصباح غرفته اطمأنّ صفوح، فعاد إلى باب المقبرة الحديديّ من جديد، وتشبّث بقضبانه، وأنا أشدّه من قميصه الذي أصبح بين يديّ مِزَقاً، وكشف عن بطنه الضامر وجسده الهزيل. راوغني، وعاركني، ولكنّه في النهاية استسلم لي، ومشى معي مطأطئ الرأس، وأنا أطوّق عنقه بيد، وأمسح دموعه بيد أخرى.
- " ماذا ستقول لأبيك، وهو يراك على هذه الحال ؟ ".
- " أنا يوسف، يا أبي، وهذا دم إخوتي الذين أكلهم الذئب ".
- " لن تمرّ مثل هذه الحكاية على أبيك ".
- " أبي لا يرى سوى نفسه ".
بادلته على باب المقبرة قميصاً بقميص وابتسامةً بابتسامة، وقفلنا عائدين إلى الحارة، يتأبّط كلّ منّا ذراع الآخر، ولكنّه سرعان ما سحب ذراعه من وراء عنقي، وسألني:
- " أين حبّات التوت ؟ ".
فأجبته ضاحكاً:
- " أكلتها غادة، وكادت تغصّ بها ".
فقال لي:
- " لو علمت عمّتي أمّ مؤمن أنّها لغادة لرمتها في وجهي ووجهك ".
طوّق عنقي من جديد بذراعه الباردة، ومسح جبينه المعروق بذراعه الأخرى، ومضينا نحثّ الخطى إلى الحارة، وصورة أمّ مؤمن لا تكاد تفارق خيالنا: هو يراها أَصَلَةً خبيثةً، وأنا أراها لبوةً شرسةً، ما إن ماتت أمّه حتّى راحت تبحث لأخيها عن جُحر لثعبانه، هو ينكر أن تكون أخت أبيه، وأنا أنكر أن تنبت شجرة التوت في دار امرأة لكعاء شمطاء مثل أمّ مؤمن.
لم يكن الطريق بين مقبرة ظهر المغارة وحارتنا إلاّ شلفة حجر، ولكنّه طريق معبّد بالجنائز، لا يكاد يوم يمرّ من غير أن تعبره جنازة، ولو لم يسمّوه طريق القلعة لسمّيناه طريق الجنائز أو طريق أمّ مؤمن، لأنّ دارها كانت تقع على سفح القلعة، وكثيراً ما كان ابنها مؤمن يغافلها، ويصعد السفح، ليهزّ أغصان الشجرة العالية، فتتساقط حبّات التوت فوق رؤوسنا كالمطر.
كان الطريق ضيّقاً ومظلماً كالقبر، لا يكاد يضيئه سوى قمر شاحب معلّق في آخر المقبرة، سرعان ما أفل وراء غيمة أو وراء نصائب القبور، فازداد الطريق حُلْكةً، ونحن ندخل زابوقة بيت الشيخ شولك التي تحوّلت مبولةً للمارّة، ثمّ ندلف منها إلى شارعنا الذي لم يكن يضيئه إلاّ نور، ينبعث من نافذة غرفة فرحان نصف المفتوحة المطلّة على الشارع، لكنّ النافذة سرعان ما انفتحت على مصراعيها عن امرأة ملفّعة بالسواد، اعتلت عتبتها، وأهوت على الأرض، ثمّ راحت تحثّ الخطى في الظلام. أطلّ فرحان بوجه مرتعد من النافذة، وتلفّت يمنةً ويسرةً، ثمّ أغلق مصراعيها بهدوء بالغ.
قلت لصفوح:
- " ألا تلتمس العذر لأبيك الآن ؟ ".
فقال لي:
- " أبي لا عذر له ".
قلت له:
- " فرحان يكبرنا بسنتين أو ثلاث، وعندما نصبح في الخامسة عشرة سنعذره ونعذر أباك ".
فقال لي بغضب وحنق عارم:
- " احتفظ إذن بأعذارك لنفسك ".
خلع صفوح قميصي، ورماه في وجهي كالمجنون، ووقف عارياً ينتظر أن أخلع له قميصه الممزّق والمصبوغ بعصارة التوت. ولمّا رأى دمعةً تترقرق في عينيّ عانقني باكياً مهمهماً، ثمّ دلف إلى بيتهم، وصفق بابه الخشبيّ وراءه بعنف، يوقظ الموتى في القبور.
15/1/2008
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية