الدولة الإسلامية في العراق والشام "باقية"، و"تزول"

مضى ما يقارب الشهر على بداية الصدام المسلح بين فصائل الثوار من ضمنها الجبهة الإسلاميّة إضافة إلى جبهة النصرة مع تنظيم الدولة الإسلاميّة في العراق والشام.
وخلال هذه المواجهة نجحت الفصائل في طرد مقاتليّ تنظيم البغداديّ من غالبية المناطق في إدلب، وريف حماه، ومدينة حلب، وريفها الغربيّ، فيما تزال المواجهات مستمرة في كل من ريف حلب الشماليّ والشرقيّ. بالمقابل تمكن تنظيم البغداديّ من السيطرة الكاملة على مدينّة الرقة وريفها بعد خروج باقي الفصائل منها، وبدأ بتجميع قواته المنسحبة والقيام بهجمات عكسيّة في محاولة لخسارة المواقع التي فقدها، والسيطرة على المدن الرئيسيّة في ريف حلب الشرقيّ المتصل مع ريف الرقة ولاسيما مدن جرابلس، ومنبج، والباب.
أثيرت غداة انطلاق المواجهة وتوسعها أسئلة كثيرة حول نتيجتها، والطرف القادر على كسبها وعن مدى نطاقها ومدتها الزمنيّة. انطلاقًا من ذلك نقف في هذه المقالة على تطورات المواجهة ما بين تنظيم البغداديّ والفصائل الأخرى، ونحاول استعراض مسارها، ونجيب عن الأسئلة السابقّة في ظل المبادرات التي تطرح ميدانيا، ولاسيما المبادرة التي أطلقها الداعيّة السلفيّ السعوديّ عبد الله المحيسيني، والتي عرفت بمبادرة الأمة، ومحتواها وقف القتال بين الأطراف المتحاربة، تبادل السجناء والمعتقلين، تشيكل محكمة شرعيّة مستقلة لفض النزاع، وتحكيم الشرع والشريعّة.
يمكن القول بدايّة، إن وقوع المواجهة ما بين تنظيم البغداديّ والفصائل الأخرى كان بمنزلة شهادة وفاة لها سواءً أكان ذلك عاجلاً أم أجلاً، لكن ما هو مؤكد أن "زوال" هذا التنظيم لن يكون في المدى المنظور:
الخلل ذاتي: عن التكفير والتترس
ذكرنا في مقالات سابقة أن هذا التنظيم ينتمي إلى جيل من الجهاديين، كان الأعنف والأسوأ ضمن الحركات الجهاديّة، ذلك أن مفاهميّه مسلمة ومطلقّة لا تقبل النقاش، فهو يستسهل "تكفير" من يخالف، وليس لديه أدنى حرص على الحياة البشريّة، فكل من يخاصمه هو "مرتد" يجب قتاله بالأسلوبّ التقليديّ ألا وهو العمليات الانتحاريّة حتى لو ضحى بحياة المدنيين العزل.
وبالطبع فإن لكل سلوك تفسيرا، والعلميات الانتحارية أو القصف بالنسف كما يسمونه، والذي عادة ما يهلك الأبرياء والعزل، تجد تفسيرها ومبرراتها في فهم "التترس". أما التترس، فمعناه "احتماء الكفار بما لا يحل قتلهم". وبحسب هذا المبدأ فإنه يجوز لغايات الجهاد وفي حالات الضرورة "رمي الكفار وقتل من معهم". لذلك ينظر هؤلاء دائما إلى نتائج هذا الأسلوب ضمن منظورهم الضيق بمعنى قدرتهم على استهداف الخصم في أي منطقة، أما نتائجه المادية بقتل المدنيين والأبرياء فلا قيمة لهم باعتبار أن وجودهم صادف في مكان "العدو"، وأنهم يرجعون إلى ربهم، فإذا كانوا مؤمنين فهم في الجنة، وإذا ما كانوا "مسيئين"، فيجازيهم بسوء أعمالهم. والجدير بالذكر أن تنظيم البغدادي نفذ أكثر من 20 عمليّة انتحاريّة منذ بدء المواجهة إلى الآن ساهمت في مقتل أكثر من 500 شخص من المدنيين، والمسلحيّن التابعين للفصائل المخالفه له.
ضمن هذا الفهم البسيط، والذي لم يحسم حتى الآن بين المنظرين الجهاديين المعارضين والمؤيدين له، يمتلك تنظيم الدولة سلاحا قويا يجعل كثير من الكتائب والفصائل الصغيرة تخشاه، وتميل إلى تقديم الولاء والبيعة (هدفه الرئيس).
يمكن الاستفادة من هذا السلاح مرحليا، لكنه وعلى المدى الطويل يخلق صداما مع المجتمعات المحليّة، ويعمق الهوة، ويؤلّبها عليه. لذلك لا يستطيع التنظيم مهما بلغت قوته أن يصمد أمام ضربات قاسية كتلك التي وجهت له خلال الشهر الماضيّ لعدم توافر الحاضنة الشعبية، ما يدفعه إلى الانسحاب والتراجع قبل التلاشي والاندثار. كما أن المغالاة في التكفير، وإن كانت تساهم في زيادة العصبية داخل التنظيم وتساهم في تماسكه، وتطيل من عمره إلا أنها تزيد من عدد الخصوم، وتساهم في تحالفهم وتقاربهم ضده. فعلى سبيل المثال اشترط تنظيم البغدادي للقبول بالمبادرة التي أطلقها المحيسني أن تتخذ الفصائل الموقعة عليها موقفًا من الائتلاف، والهيئات العسكريّة التابعة له أو تلك التي تتلقى دعما غربيا وإقليميا، وأن تتخذ موقفا من كل من قطر، والسعوديّة، وتركيا، وأن تتخذ موقفا من العلمانيّة، والديمقراطيّة، والدولة المدنيّة. هذه الدائرة إذا ما نظرنا إليها، نجد أن تنظيم البغداديّ يكفر غالبيّة القوى السياسية والعسكريّة، والشرائح الشعبية المؤمنة بأفكار غير أفكاره. ومن غير المنطقي إذاً أن لا تجتمع هذه القوى لمحاربته، خاصة في ظل ازياد إجرامه.
حبل النجاة: تضارب الرؤى والحسابات لدى الآخر
يمثل تنظيم البغدادي "الآخر" بالنسبة للفصائل المشاركة في قتاله بما فيها تلك التي تنتمي لنفس المدرسة كجبهة النصرة، فالجميع متفقون على مواجهته، لكنهم مختلفون على أهداف المواجهة، فالفصائل الإسلاميّة بما فيها النصرة تريد تحجيم تنظيم البغدادي، وإجباره على الإقرار بأنه فصيل إلى جانبهم، وليس "دولة" و"سلطة" تأمرهم، وتتسيد عليهم، وتجبرهم على مبايعة أميرها "أبو بكر البغداديّ". كما أن هذه الفصائل تخشى أن تمتد المواجهة وتستمر بشكل يؤدي إلى إضعافها، واستنزاف قدرتها وحرف وجهتها عن قتال قوات النظام (العدو الأساسي)، وأيضا تخاف وجود ارتباطات إقليمية ودوليّة في هذه المواجهة بحيث يكون تنظيم البغدادي الهدف الحاليّ، وتكون هي هدفا تاليا خاصة وأن بعضها كجبهة النصرة موضوعة على قائمة الإرهاب الأميركيّة.
بالمقابل توجد فصائل كجيش المجاهدين، وجبهة ثوار سوريا وباقي الكتائب المرتبطة بهيئة الأركان تريد استئصال تنظيم البغدادي نهائيا فهي تعتبره خطرا على الثورة، وعليها، وأن المواجهة معه حتميّة سواء جرت الآن أم في أجل لاحق. إرادة هذه القوى هو ما يجعل المواجهة مستمرة مع داعش، لكنها تفتقر إلى الإمكانيات اللازمة لتحقيق هدفها.
اختلاف الرؤى والحسابات، وعدم وجود إرادة حاسمة لإخراج تنظيم البغدادي من سوريا يساهم في إطالة عمره، وقد يساهم في تمدده مجددا، لكن نهجه سيحتم من جديد المواجهة.
دخول الفاعل الخارجيّ
سعى تنظيم البغداديّ منذ الإعلان عنه 9 نيسان/ أبريل 2013 إلى فرض هيمنته على المناطق المحررة من خلال السيطرة على طرق الإمداد الرئيسيّة العسكريّة والإغاثية في الشمال والشمال الشرقيّ. ولتحقيق ذلك، حاول السيطرة على المعابر الحددويّة مع تركيا (معبر باب السلامة/ اعزاز)، (معبر تل أبيض/الرقة)، وعندما كان يتجهز للسيطرة على المعبر الأهم والمتبقي لدخول الإمدادات ألا وهو باب الهوى، قامت الكتائب المتضررة بالهجوم المعاكس. إن نشاط تنظيم البغدادي في المناطق الحدوديّة المحاذية لتركيا سيجعل من الأخيرة تعيد حساباتها فيما يتعلق بسوريّا، ويدفعها إلى الدخول في مواجهة عسكريّة معه. وقد بدأ هذا الاحتمال يتجسد على أرض الواقع، إذ استهدف الجيش التركي 29 كانون الثاني/ يناير 2013 رتلاً لتنظيم الدولة مؤلفًا من 20 سيارة مسلحة، كان متجها إلى بلدة الراعي المحاذية للحدود السورية التركيّة ما أوقع عشرات القتلى من مقاتلي التنظيم.
يعد الاستهداف التركيّ تطورا خطيرا، وقد ينجم عنها تداعيات ونتائج تسهم في انخراط تركيا في مواجهة التنظيم، إذا ما هدد أمنها القوميّ، لاسيما بعد تسريبات صدرت عن المخابرات التركيّة تحذر من احتمال أن يقوم تنظيم البغدادي بسلسلة عمليات داخل تركيا تستهدف مكاتب المعارضة وهيئاتها. وقد يكون التدخل التركيّ المحدود مقدمة لتدخل أوسع قد يشمل قوى ودول أخرى واستراتيجيات جديدة.
من كتاب "زمان الوصل" - باحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية