أخطاء استراتيجية للائتلاف في جنيف
في الحقيقة لا يمكن الحديث عن استراتيجية، لأن وفد المعارضة الذي تشكل بطريقة اعتباطية ومن دون تفويض من الثوار، لا يمتلك معرفة منسقة عن التفاوض، ولم يحضّر الملفات المطروحة، فالمسألة بالنسبة إليه هي مجرد حفل تصوير ومقابلات وسياحة سياسية (كالعادة تراكض الجميع لحضورها بشغل ومن دون شغل)، لذلك عندما يبدأ التفاوض الجدي أتوقع أنهم سيقعون في مطبات كبرى، وقد باشروا السقوط فيها منذ يومهم الأول:
بدأت مبادرة جامعة الدول العربية بالطلب من النظام تنفيذ إجراءات أساسية تنفذ فورا ومعا كما قال وزير الخارجية القطري حمد بن جاسم يومها وهي:
1- وقف إطلاق النار والقصف و القتل والاعتقال والمداهمات والحصار، 2-سحب الجيش إلى ثكناته، 3- إطلاق سراح المعتقلين، 4-السماح بالتظاهر السلمي، 5- تقوم المعارضة بمنع المظاهر المسلحة، 6- وبعد ذلك يتم الدخول في حوار بين السلطة و المعارضة لرسم خريطة طريق للتغيير الديمقراطي الذي يلبي مطالب الشعب، وإصدارها في إعلان دستوري، لتنفذ بإشراف محايد، وبوجود مراقبين..
جاء كبير المراقبين المبعوث الدابّي مع فريقه بعد طول انتظار، وسرعان ما فشل، ثم تبعتها مبادرة من الأمم المتحدة والجامعة معا، وترأسها كوفي عنان وفشل هو الآخر ... ثم أصبحت بنودها هي ذاتها بنود جنيف1 التي لم تطبق هي الأخرى.
كان النظام في كل مرة يحبط أي مسعى للحل، ويمعن في القصف والتدمير والقتل ويفاقم في القمع والحصار والتهجير .. حتى وجد المجتمع الدولي أن الطريق مع هذا النظام مسدود .. ولأن طريق مجلس الأمن والنظام الدولي معطل هو أيضا بالفيتو الروسي الصيني ، ولأن روسيا دأبت على طرح مسار جنيف كبديل عن الشرعية الدولية والقانون الدولي والمحكمة الجنائية الدولية .... تفاوض الأمريكان والروس على جنيف2، التي قلبت الأولويات، وجعلت من التفاوض على تشكيل سلطة انتقالية أولوية في المقدمة، لتقوم هذه السلطة الانتقالية بعد تشكيلها بتنفيذ جنيف1، متكاملا وجملة واحدة ومن دون إبطاء..
و تم حصر العقدة في التوافق على سلطة يرضى عنها الطرفين كاملة الصلاحيات.. وقبلت أمريكا التغاضي عن شرط رحيل الأسد كمقدمة لإطلاق هذا المسار، طالما (من وجهة نظرها) لن يكون له مستقبل في الحكومة الانتقالية، لأنه بكل ببساطة لن تقبل به المعارضة ... فكل طرف سيكون له حق الفيتو ..
نظريا هذا الكلام منطقي، لكن عمليا ما جرى هو أن النظام الدولي القادر على الإلزام قد تعطل نهائيا ولا أمل في استخدامه، وكل الدول لن تتدخل عسكريا من دون غطاء أممي، و تشكيل الحكومة الانتقالية القادمة سيكون مشروطا بموافقة النظام عليها . وهي لن تستلم السلطة قبل أن تقنع الأسد بالرحيل طوعا، أو أنها ستكون بوجوده وإشرافه، وبعد ذلك ستمارس سلطتها عبر مؤسسات النظام القمعية المجرمة ذاتها .. وبالرغم من ذلك ومن صعوبة التوصل لهكذا حكومة .. جرى بالأمس القفز حتى فوق موضوع الحكومة الانتقالية هذا، للتفاوض مع النظام على تنفيذ أجزاء وفتات من جنيف1 ... بالتزامن مع استمرار بل تفاقم القتل والقصف والاعتقال والتهجير في كل مكان وعلى نطاق واسع (أي تم التركيز على فتح بعض المعابر وإطلاق بعض المعتقلين .. تلك التي كانت شروط بديهية تسبق الحضور وعد بها الائتلاف).
وهكذا وبالاتفاق مع الابراهيمي دخلت المفاوضات في متاهة لا نهاية لها ، والأزمة أصبحت ميالة لأن تراوح مكانها ، ومُيّع موضوع السلطة ، ورُحِّل لما بعد إجراءات الثقة ، لأن إجراءات بناء الثقة التي اقترحها الابراهيمي ( على اهميتها الدعائية ). هي من فتحت باب اضاعة الوقت وتهرب النظام وإطالة عمره .. وهكذا فالنظام يستطيع أن يطلق الف ليعتقل الفين من أي حاجز ، ويطعم حارة محاصرة ليجوع مدينة ، من دون أن يخسر أي شيء ... ويستمر في إظهار حسن النية من دون مقابل من المعارضة ، فماذا تستطيع المعارضة تقديمه كإجراء لبناء الثقة المتبادلة .. عندها سينكشف أمر المعارضة المزيفة لأنها لا تملك أن تأمر المقاتلين ، ولا الذين لديهم أسرى .. وماذا لو طلب النظام وقف اطلاق النار ، هل ستلتزم الجبهات التي أسقطت الإتلاف !!! .. وغدا قد تطرح ايران إخراج كل المقاتلين الأجانب ، فهل كبير المفاوضين وفخامة الرئيس قادر على أن يخرج من يقاتلون معهم من الأجانب ؟؟ ... بينما جنّس النظام من يقاتل معه من الأجانب ، وزودهم بالوثائق السورية فهو يعد مسبقا لملفاته وطروحاته .... وبدل أن يركز وفد الائتلاف على بند واحد وهو السلطة الانتقالية، وضمن مدة محددة، سرح به وفد النظام في مراعي الشؤون الإنسانية، التي هو من يتسبب بها ويديرها بمهارة.
فعناصر ضعف وفد المعارضة هي تفككه ونقص انسجامه وعدم خبرته وزيف تفويضه وانعدام نفوذه على الأرض، وليس لديه سوى عنصر قوة واحد هي جرائم النظام، في حين أن النظام استطاع أن يضع جرائمه على قدم المساواة مع جرائم المعارضة، بل بدأ يدعي أنه يقاوم الهجمة الإرهابية .. ولديه ما يثبت وجودها الفعلي في معظم المناطق المحررة التي يدعي الائتلاف سلطته عليها. وأداء فريقه متمرس ومنضبط، وهو يملك صلة قوية وتعاون قديم مع الوسيط الدولي الذي لم يظهر أنه محايد في أي مرحلة.
وهكذا نحن نتجه منذ الجولة الأولى لخسارة المفاوضات، ومنذ البند الأول وهو بناء الثقة، مع أن وفد المعارضة السياحية أعلن انتصاره ورفع شارات النصر (كالعادة مع كل الثوار المزيفين). لكن النظام سيبقى في نهايتها ... النظام الذي استعاد نصف شرعيته بمجرد حضوره، والذي سيحرج المعارضة بسلوكه، وسيظهر فشلها وعجزها، ويكسب الوقت الكفيل في استمرار عملية إبادة الشعب، أو إذلاله وفرض الإذعان عليه. وأقصى ما يمكننا توقعه في حال نجاح جنيف2 هو إعادة إنتاج النظام (لكن بشكل فيديرالي) وإعادة شرعنته بضم بعض شخصيات معارضة إليه، أصبحت معروفة ولها لون معين (وربما إذا اضطر الأمر من دون شخص الأسد الذي سيمنّ علينا بموافقته على الرحيل الآمن الكريم بعد مدة قد تطول)، لتقوم هذه الحكومة الشرعية بخوض حرب ضروس ضد المجاهدين (المتطرفين المتمردين والإرهابيين) وبمساعدة دولية.... في النتيجة لن يحل السلام لكن ستتغير قواعد وجبهات الحرب.
أما في حال فشل جنيف2، وهو الأقرب لأنه من المستحيل نظريا التوافق على حكومة انتقالية يرضى عنها الطرفان، والأكثر استحالة هو جعلها تحكم كلا مكونات الطرفين، وتمارس سلطة فعلية على كامل الوطن الذي ارتهنت وحدته بتشكيل تلك السلطة. ولأن التهديد بالعودة لمجلس الأمن هو تهديد أجوف ... إذا لم ننسَ أن الشرعية الدولية والبند السابع معطلان مسبقا بالفيتو ... ولأنه لا توجد قوة ملزمة فعلية ترتجى ....
لذلك كله كانت النتيجة المتوقعة أن تراوح المفاوضات وتنتهي من دون تغيير السلطة ولا وقف نزيف الدم، ليصبح الطريق الوحيد نحو وقف العنف هو القبول بالأمر الواقع، وبحدود التقسيم الحالية أو بالتفاهم على تعديلها. وتحت ضغط المعاناة الإنسانية سرعان ما سيصدر قرار دولي بوقف تدفق السلاح، وفرض وقف إطلاق النار ... ثم نزول قوات حفظ سلام دولية، تتحول تدريجيا ومع الوقت لقوات فصل وتثبيت لحدود التقسيم ..
لذلك نقول: الله يعطيكم العافية أيها المعارضون السائحون العابثون المتسلقون على السياسة وعلى تضحيات الشعب، والذين سوّلت لهم أنفسهم أن يذهبوا من دون تفويضه ... والسلام على سوريا الموحدة وعلى هويتها وعلى الثورة أيضا..
مع كل الأسف لكون ذلك يجري باسم السلام والحل السياسي وبرعاية الصديق وضغط الشقيق الذي يمنع أي صوت معارض لهذا التفريط والتزييف من الوصول للإعلام الذي يمعن في خداع الشعب ويلعب على عواطفهم .. حسبنا الله.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية