أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

حمص أيقونةُ المعابد المنهارة

هي الاسم الجمع والجمع المهشّم. حمص التي يعلو الحديث عنها خلال مذابحها، ثم يصمت الكثيرون، وكأنها استعادت استقرارها ووجهها الطبيعي. حمص المتروكة لألاعيب الشيطان والأخوة الأعداء، يحفرون لها حفرةً يوقعونها فيها جميعاً ثم ينسحبون من اسمها ومستقبلها. يحفرون لها الأخاديد العسكرية والسياسية والطائفية على مدار الوقت، فيما يشبه بيعاً رخيصاً لما سموه عاصمة الثورة، حمص هذه هي العمود الفقريّ لما يجري وما سوف يجري. عمود فقريّ حمل عن الجميع ما لا تحمله السموات والأراضي، من أمانات وعذابات وأشلاء وتذبيح. ماذا يريدون منها أكثر؟ لماذا يجففون منابع الأمل عن عروقها؟ لماذا يبخلون عليها بأقلّ مما أعطته هي مانحةً كريمةً مؤثرةً على نفسها ولو كان بها مذابح؟! تعرفون ماذا يرسمون لسوريا كلها من خلال حمص... يقطعون أحياءها المحاصرة حيا وراء حيّ. يغلقون المنافذ حتى لا هواء. يريدون خنقها بالتدريج لتستسلم في النهاية وتسقط معها قلعة الحرية الأمامية ويتبعها باقي القلاع...ويريدون بعدها تضييق اسم "الدولة السورية" كلها إلى زواريب للطوائف والعشائر وربما العائلات... 

وهناك مع كل هذا من يبقى في بيته، خلف أسوار حيه المحاصر الجائع المنتهك، تضمحل عيونهم رعبا وتشاؤماً من الأخوة والمناضلين والسياسيين... هناك من يريد أن يبقى أقرب لتاريخه وذكرياته وهو يعرف أن الموت قادم بأي طريقة.

حمص... اسم مفردٌ جامعٌ لكارثتنا السورية، لمصيرٍ يرسمونه سراً، ربما لتقسيمٍ يشتغلون عليه بإبرةٍ لا تكلّ ولا تملّ. وكأن هناك من يبيع ويشتري ناسفا أحلام الجميع ضاربا بها عرض جدار المذبحة.

إن لم تدركوا حمص، سوف لن تدركوا سوريا كلها... لن تدركوا مسار حلمكم بالثورة. حمص التي تخترق مساحات كبيرة من الجغرافيا السورية، قادرة أن تغير كل الوقائع حين نتركها إلى هذه الدرجة من الغفلة والنسيان...وتنقلب الأمور منقلباً تطير معه كل ما رسمناه وما أنشدناه وما حلمنا به. 

حمص مفتاحٌ للباب السوريّ. لا ترموه في الهاوية. لأن الهاوية قادمةٌ.

حمص تحت الحصار، الحصار حول حمص من كل أنقاضها. مدينةٌ تهتكت شرايينها، انسكبت جثثها اليومية على بلاطٍ مهجور أو أدراج متصدعة، انمحت ركبتاها من الصلاة والاستغاثات، ورم قلبها من القهر والشعور بالخذلان والاستفراد. مدينة يئنّ حجرها بكل اللغات، هاجرت العقاربُ في ساعاتها إلى شوارع خالية إلا من أكوام سقوط البنايات بصورة توحي بيوم قيامة مرّ مخلّفا وراءه دلائل الجبروت البشريّ في صناعة الإجرام. 

حمص الوعاء الفارغ من الماء، الكيس المعفن من كسر خبز بايتة، الأطفال الناحلون يوما وراء يوم، الشباب المتفتح وعيه على كوارث تاريخية نزلت بمدينته ومستقبله، حمص الصراخ المكتوم على مدار الوقت، تحاصَر وتحاصِرُ، تقاسي وتلين للحنين القاتل، تتلوّى مفاصلها من روماتيزم يخلّي العظامَ رميماً وهي كانت وريقات خضراء.

حمص اللعنة التي تسكن في مخيلة البشر جميعاً. حمص التي أدت فروضاً للحرية والكرامة عنها وعن ساحات العالم كلها. حمص نشيد القلق اليومي، نهارا وليلاً، صرختنا المرعبة في بئر الجحيم، حمص الحصار الذي يحاصرُ القتلة والأطفال معاً، مع الفارق في المغزى والأخلاق. 

حمص مسقط رأسي، ومسقط كل أنواع القذائف الحاقدة والصواريخ والبراميل والمتفجرات الخرافية... وهي مصرّة على أن تطلق بين الآونة والأخرى مظاهرةً أو أغنيةً أو نزيفا أو بطولة نبيلة.

حمص الدرس السوريّ العظيم في جدواه ومآله. 

حمص مدينة السلام التي سقط فيها السلام... 

تعويذة الألم على صدورنا جميعا.

أيقونةُ المعابد المنهارة، طناجر الطبخ الممتلئة بالغبار وركام السقوف المنهارة، أباريق الشاي المتروكة في مداخل الحارات الصامتة، ألبسة العرسان الشهداء وهي تنتظرهم وراء الخزائن.

حمص يا عاصمة الألم الكبير.

يا قبر الأمل وقيامته، لك أسجد طويلاً. يا مقدَّستي !

من كتاب "زمان الوصل"
(87)    هل أعجبتك المقالة (93)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي