لم تكن الجلسة الافتتاحية لمؤتمر جنيف إلا منبرا إعلاميا، وحلبة مبارزة، بين الفرق المختلفة المتصارعة في سوريا أو عليها.
وباختصار لم تتبدل المواقف الدولية كثيرا، بل شوهد بعض التراجع في المواقف العربية، وفي سقف المعارضة التي لم يكن ذهابها بالأمر السهل ولا بالسلس، بل كلفها الكثير من وحدتها ومصداقيتها وشرفها.
وبينما دافع وفد النظام عن قضية خاسرة بامتياز، دفاعا وقحا متحديا كاذبا، فلم يأبه لإدارة الجلسة، ولم يحترم لا الحضور ولا الدول ولا الأمين العام، وشتم واتهم الجميع بدءا بالشعب السوري الإرهابي مرورا بدول الجوار وحكامها وصولا إلى الأمريكان وبأشخاصهم. وأعلن عن نفسه كما هو في الواقع، كنظام شمولي لا يرى الآخر ولا يحترم عهدا ولا مشتركا، بل يفعل ما يريده وما يحلو له.
وقدم وفد المعارضة العشوائي والفاقد للمصداقية بنظر الشارع، أداء أقل من الممكن في هكذا ظرف، وهو المسلح بثورة عظيمة عمرها ثلاث سنوات فيها كل قصص البطولة، وفيها قصص جرائم قام بها النظام يندى لها الجبين ليس أقلها الكيميائي، والسجون، والبراميل، لكنه ركز بشكل خاص على إقناع المجتمع الدولي بأنه راغب فعلا في السلام، وركز على نفي التهم التي توجه للمعارضة التي ترفض الحوار مع القتلة، ولا ترى أن ذلك هو الطريق الصحيح، وركز على قتالها للتطرف أكثر من قتالها لشبيحة النظام والمليشيات الطائفية الغازية، و على المعاناة والاحتياجات، أكثر من الحقوق والطموحات والرغبة في الحرية والكرامة وعنفوان الشعب.
ولأنه هناك الكثير جدا من المنابر وساحات الحروب الإعلامية.. فإن المطلوب من جنيف هو شيء أبعد من ذلك بكثير، إن كان من قبل الشعب السوري الذي يعاني، أو من قبل المجتمع الدولي المحرج... فماذا بعد الجلسة الافتتاحية؟
لا يجب أن ننسى أن مسار جنيف والتفاوض بين الطرفين، هو اقتراح روسي متكرر كان يعقب اتخاذها الفيتو، فهو من وجهة نظرها بديل عن الشرعية الدولية والقانون الدولي، وإلغاء للحق في الحماية والعدالة الدولية، حتى عندما ترتكب الجرائم ضد الإنسانية. فالتفاوض في جنيف هو من حيث المبدأ إضفاء الشرعية على عملية تعطيل كل ذلك.
وتوصيف بيان جنيف هو توصيف مغلوط للأزمة في سوريا كصراع بين طرفين (مجتمعين – دولتين –مكونين) وليس بين شعب ونظام (سلطة تحكم هذا الشعب)، وشتان بين هذا وذاك. فالجرائم التي ترتكب داخل أي مجتمع تعالج بالعدالة التي هي أساس بقاء الاجتماع والسلم الأهلي، بينما الحروب التي تنشب بين الدول شيء متوقع، ولا بد أن تنتهي بالسلام الذي يعبر عن ميزان القوى، لتستقر الحدود وتهدأ نيران الحرب وتعود الحياة، ولا تحتكم للعدالة عادة بل للمصالح. والخلط بين المفهومين على ما يبدو مقصود وخبيث لأنه سيبشر بالنتيجة المرجوة منه، ومن فتح هكذا مسار، وهي فعلا الإبقاء على الطرف الآخر وتقاسم السلطة معه أو الوصول للتقسيم النهائي بينهما، التقسيم كأمر واقع وطريقة وحيدة للسلام، بعد أن يفشل التعايش والتوافق بين الضحية والمجرم!
وهنا إما أن يكون المجتمع الدولي غبيا ومجنونا، أو هو خبيث ويستهتر بعقولنا ويستخف بعذاباتنا؟
فالحل الوحيد من وجهة نظره هو حل سياسي، وهو لا يمر عبر العدالة، والتوازن المصطنع الموجود لا يجوز ولن يسمح بكسره، والمجتمع الدولي سيستخدم فقط الديبلوماسية لفرض الحل، فكل ماكيناته التنفيذية معطلة بالفيتو الروسي الصيني المزدوج، والحل السياسي الذي يحفظ وحدة سوريا هو فقط في التوصل لسلطة انتقالية متوافق عليها بين النظام والمعارضة، اللذين يتقاتلان على السلطة.
وماذا لو لم يتفق الطرفان وهو ما يبدو بديهيا، هل ستستخدم الدول وسائل الضغط على النظام .. وما هي هذه الوسائل؟، لقد كانت رسالته واضحة التحدي، فالإحراج والخجل آخر ما يشعر به، وممارسة القوة والضغط والحصار ممنوعة بفيتو مزدوج، وأمريكا القوية المتغطرسة، تراها حمامه سلام، عندما تتعلق القضية بذبح شعب كامل يصنف على أنه غير صديق.. لأنه عربي ومسلم وسني.
لقد ربطت الدعوة لجنيف وحدة سوريا بالتوافق على سلطة انتقالية، وتعمدت أن تغفل مصير السلطة الحالية، أو تحديد من سيزيحها ومتى وكيف، واشترطته بقبول السلطة نفسها، نعم لقد قبل كيري في موسكو التخلي عن شرط رحيل الأسد لإطلاق مسار السلام، ثم أجبر الشقيق والصديق من تبقى من معارضة خارجية شكلية على التخلي عن هذا المطلب المنطقي، وهذا التخلي هو ما يتمسك به الروس والنظام حاليا، فكيف ستحل المشكلة، التي هي مشكلة وجود هذا النظام... ولماذا قبل الأمريكي بالقفز فوقها؟ حبا بالسلام؟، أم لغاية في نفس كيري لافروف؟!
كل المؤشرات تقول إن النظام سيتهرب وسيلعب على الوقت ويدخل في التفاصيل والأمور التافهة، والجزئية ويتسلى بالفتات، وعليه فعلى المعارضة أن تقطع عليه الطريق عاجلا أم آجلا لأن الوقت بالنسبة لها دماء وشهداء وأنين.. وماذا لو فشلت في ذلك، وماذا لو فشل جنيف، بتضييع الوقت أو بانسحاب أحد الطرفين، وهذا على ما يبدو شبه حاصل، هل ستترك الحرب دائرة وشلال الدماء يهدر... لا بالتأكيد، فلابد من فرض السلام.. ولا بد من اتخاذ إجراءات لحصار الطرفين ومنع السلاح عنهم، وإجبارهم على وقف إطلاق النار، والقبول بوجود قوة حفظ سلام.. أي بالنتيجة تثبيت الحدود القائمة بين الطرفين.. كحدود بين مكونات... دويلات متحاربة تعزل بينها جيوش حفظ سلام.. فنكون قد ضحينا بوحدة سوريا، مقابل الحصول على الأمن والحق في الحياة والممرات الآمنة والطعام.. وهو على ما يبدو ما توافق الروس والأمريكان على فعله منذ أكثر من سنتين، وما سيرت الأمور لتصل إليه بخبث، وما رتب له بمهارة، وبفعل فاعل وخطة مرسومة.
يثبت لنا ذلك ما جرى ويجرى على الأرض.. وما يرسم من حدود لدول وأمارات. دوماً بوجود دول ترعاه وتدعمه علنا وسرا، بدءا من دولة (الإسلام) داعش في الشرق، مرورا بدولة الـ"بي كي كي" الكوردية في الشمال، ودولة الساحل العلوية -الروسية المستقلة عن الأسد في الغرب، ومربعات حزب الله وميليشياته العراقية والإيرانية في إدلب وحمص وريف دمشق أي في الوسط، وصولا لدولة ما تبقى من النظام في دمشق الغربية، وغدا لا أدري إن كانت ستعلن دولة للدروز أيضا في الجنوب.
طبعا هذا التقسيم من الصعب أن يستمر طويلا لأنه مضاد لمسار التاريخ والمصالح، لكنه سيؤخر مسار الحضارة والاندماج والتقدم.. وسيعطي الفرصة للطامعين الكبار (وهم روسيا وأمريكا وايران) لإشباع نهمهم الإقليمي والاستعماري على حساب الأضعف أي الوجود العربي المسلم السني، الذي طبع المنطقة بطابعه، والذي يحرّم الآن من قيادتها في مرحلة انضمامها للحضارة الكونية المعولمة، كوحدة ثقافية سياسية فاعلة.. وهذا التهديد هو ما يغذي نزعات متطرفة جدا، ويبررها عند السنة من العرب.
فمسار جنيف السلمي ظاهرا، هو من حيث الواقع الفعلي مسار مضاد للاجتماع والعدالة وللنظام الدولي والحقوق والدين والشرائع، وهو يشرط تحقيق السلام بالقبول: إما ببقاء المجرمين والتفاهم معهم والحفاظ على البنية العميقة للدولة والنظام الطائفي المجرم، ولا مانع عندها من رحيل الأسد، أو القبول بالتقسيم وضياع الهوية، والدخول في حالة من الفوضى والضعف الضبوط ولفترة طويلة، كما هو الحال في لبنان والعراق، بل أسوأ من ذلك بدرجات.
لقد استخدم النظام مسار جنيف لاستعادة جزء من شرعيته (ولم يعد نظاما مجرما فاقدا للشرعية، بل أصبح طرفا يجلس على طاولة ليقرر مستقبل سوريا مع شركائه من السوريين)، وبعد ذلك سوف ينسحب منه بمهارة كي لا يخسر شيئا، ولن يقدم إلا الفتات (بعض سيارات الطعام هنا وهناك في بلد كله محاصر، وإطلاق بعض المعتقلين إلى مجتمع يقبع كله تحت القصف والبراميل)، ولتحويل الأنظار عن المسألة الأساسية التي هي إسقاط النظام.. إلى مسألة إنسانية عفوية لم يتسبب بها هو.
بينما استخدمت المعارضة مسار جنيف لتمييع مسؤولية المجتمع الدولي، وتعطيل آلياته... ولكسر ثوابتها وفقدان شرفها ووحدتها وتناغمها مع عنفوان الشعب، مقابل أن تجلس قيادتها المزورة أمام الكاميرات وتكسب ابتسامة وإطراء المجتمع الدولي، الذي أنكر كل واجباته تجاه جرائم حرب وإبادة ترتكب.
واستخدم المجتمع الدولي مسار جنيف ليتحول إلى متفرج بليد، والشعب السوري يموت جوعا بينما هو يتقاسم البطاطا ساخرا. مع أن كل ما يجري في سوريا هو نتيجة نفوذ ومصالح دول أجنبية مهيمنة هي من جاءت بالنظام، وهي من ترعاه وهي من تحرك الصراع وتعيّره وتوجه الحل فقط لخدمة مصالحها .. ثم تدعي الإنسانية والتحضر وتتهمنا بالهمجية والتطرف لتبرر استمرار هيمنتها وكذبها.
لذلك نحن رفضنا هذا المسار من أساسه، لكن رفض هذا المسار لا يعني رفض السلام، إنه تأكيد على بديهية أن السلام يمر فقط عبر الحق والعدل، ويبدأ بتوقيف المجرمين، وليس عبر الإبقاء عليهم في السلطة حاكمين. فهل تملك جنيف وسيلة سياسية لإسقاط نظام الأسد وتفكيكه ومحاكمة رموزه؟ مع العلم أنه الطريق الوحيدة لتحقيق السلام ..من دونه سيستمر الشعب بالتمرد وستستمر الحرب.
أم أنهم يراهنون على خنوعنا واستسلامنا وتفريطنا بدماء شهدائنا وعذابات أهلنا والتخلي عن عزتنا وكرامتنا.. سنراقب ونرى.. بينما الناس تعذب وتذبح ...وشبابنا تقاتل... ووفد المعارضة المزورة مشغول بمظهره الدولي.
من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية