أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

في نماذج الفكر السياسي المأزوم: الإخوان المسلمون في سوريا

مرةً تلو إخرى، تختلطُ لديك مشاعر الألم بالسرور جَرّاء ممارسات جماعة الإخوان المسلمين في سوريا.
الألم على فكرٍ لاشك أنه فكرٌ بشري يختلط فيه الخطأ بالصواب، لكن روادهُ الأوائل ساهموا من خلاله بإعادة إدخال الإسلام إلى الحياة والتاريخ بشكلٍ من الأشكال، بعد أن بقي على هامشهما على مدى قرون.

والسرورُ من ممارساتٍ تُظهر حقيقة المآل الذي آلت إليه الجماعة في واقعها الراهن.

لسنا هنا في معرضِ شماتةٍ طفوليةٍ لاتليق بمقام الحالة السورية، وإنما نتحدث عن شعورٍ ينبثق من أعماق الهم السوري والعربي على حدٍ سواء في واقعنا المعاصر. لأن الممارسات التي نتحدث عنها تكسر وهماً كبيراً لدى بعض العرب والمسلمين باحتكار الجماعة المذكورة للعمل السياسي الموصوف بأنه (إسلامي).

وهو وهمٌ يضع المواطنين العرب، تحديداً هذه الأيام، في حصارٍ مُحكم. فإما أن يكونوا مع الجماعة، بكل أخطائها وقصورها وفقرها الفكري والسياسي المُدقع، أو يكونوا مع أمرٍ واقعٍ يتصادم معها، لكنه يجرهم إلى الماضي ولايجدون فيه مايلبي أشواقهم وطموحاتهم في مثل هذا العصر.

وقد يكون هناك خيرٌ كبير في أن يخرج المواطنون العرب من هذا الحصار النفسي والعملي. بل ربما يكون مهماً أكثر خروج شرائح كبيرة من النخبة العربية، المُصنفة إسلامية أو غير ذلك، من هذا الحصار، ليكون خطوةً أولى هامة على طريق وجود بدائل أكثر قدرةً على تقديم فهمٍ للإسلام يُعبر عن جوهره الحضاري. ويأتي هذا على شكل حضورٍ لايتناقض فيه الطرح النظري مع الممارسة العملية، ويتمثل المبادىء في حركته بشكلٍ لايضطره للمناورة المستمرة المُنهَكة بحثاً عن مكاسب سياسية عاجلة وآجلة، لايمكن أن تتحق في معزلٍ عن تراكمٍ فكري وثقافي كبير.

ثمة أزمةٌ تاريخية في مسيرة الجماعة تتراكم مُسبباتُها وظواهرُها ونتائجُها لايحتمل المقامُ الدخول في تفاصيلها التي تحتاج إلى دراسةٍ مطولة، ويتمنى المرء بكل صدقٍ لو يقوم بها أبناء الجماعة أنفسهم. من هنا، سنكتفي هنا بالإشارة إلى جانبٍ من تلك الأزمة، يتعلق بالثورة السورية، ويتمثل في الخلط الكبير لدى القيادات بين (البراغماتية) بحدوها المعقولة بمقاييس المنطق والشرع من جانب، وبين شيءٍ آخر لايمكن تسميته بغير (الانتهازية). 

ويأتي حرصُنا هنا على الإشارة إلى القيادات لأن في جسد الجماعة على مختلف المستويات أفراداً في قمة الرقي والتهذيب، وهذا أمرٌ باتت تعرفهُ شرائح كبيرة من المعارضة السورية ومَن له معرفة بالشأن السوري بحُكم العلاقات التي انفتحت بين الإخوان وغيرهم بشكلٍ واسع في السنتين الأخيرتين.

المفارقةُ أن هذا الاحتكاك الكبير، والمعرفة المتزايدة بمواقف الجماعة وطريقة عملها داخل المعارضة، يطرحان بشكلٍ مضطرد لدى الكثيرين من خارج الجماعة سؤالاً كبيراً عن كيفية قبول كوادرها، خاصةً من أبناء الجيل الجديد، بمثل هذا الواقع المأزوم على صعيد الفكر والممارسة. وقد لايمكن تفسير الظاهرة المحيرة إلا باستمرار سيطرة مفاهيم معينة على ثقافة الجماعة، مثل الطاعة والجندية والإصلاح من الداخل، وما إلى ذلك من المفاهيم التي تمنع، وستظل تمنع، أي مراجعات حقيقية تؤدي بدورها إلى تغييرات جوهرية في البرامج والهياكل والقيادات.

ثمة مثالٌ قريبٌ نسبياً يجب أن نعود إليه قبل الحديث عن المثال الآني الذي كان الدافع لكتابة هذا المقال. فمنذ سنوات قلائل خرقت الجماعة اتفاقها مع مجموعة إعلان دمشق وظهرت فجأةً في تحالفٍ جديد مع عبد الحليم خدام فيما سُمي وقتها (جبهة الخلاص الوطني). وكما حصل التحالف مفاجئاً عام 2006م، فاجأ الإخوان الجبهة وخدام بإعلان الانسحاب منها وبتعليق أنشطتها المعارضة للنظام السوري عام 2009م. حصل هذا مع العدوان الإسرائيلي على غزة ذلك العام، وجاء كما قالت الجماعة: "استشعاراً لهذه المسئوليةِ التاريخية، وقياماً بحقّها"، حيث قررت الجماعة "وضْعَ جميعِ إمكاناتها في خدمةِ مشروعِ المقاومة، وتعليقَ أنشطتِها المعارضة، توفيراً لجهودِها للمعركة الأساسيةِ ومواجهةِ العدوان".

لسنا في مقام تحليل هذا الموقف السياسي ودراسة ملابساته وإنما نحرص أكثر على قراءة خلفياته الكامنة في ثقافة الجماعة وفكرها السياسي، وقد أشرنا لهذا سابقاً بمزيدٍ من التفصيل في مقالٍ بجزئين بعنوان (الإخوان المسلمون: ممارسة السياسة بالتعالي عليها). فحين سألت المذيعة في قناة الجزيرة خديجة بن قنة الناطق الرسمي باسمهم وقتها، السيد زهير سالم، عن ملابسات الموضوع، كان من ضمن إجاباته: "سيدتي نحن في جماعة الإخوان المسلمين لسنا حزباً سياسياً أو جمعية محلية، معروف أن هذه الحركة لها أبعادها الإسلامية وأبعادها العربية نحن جزء من مشروع الأمة العام وعلى هذا الأساس نتصرف وعلى هذا الأساس نتخذ سياساتنا.." ثم أردف قائلاً: "نحن لسنا أشخاصاً نحن لسنا حزباً نحن هذا الشعب السوري بأكثريته الكاثرة، نحن الذين نملك ناصية القرار المستقبلي في سوريا عند أي تقدم حقيقي نحو الديمقراطية وبالتالي نحن الأقوى في هذه المعادلة ونحن نتصرف على أساس هذا الشعور وعلى أساس هذه الثقة بالنفس. نحن تقدمنا بموقفنا هدية إلى إخواننا في غزة إلى شعبنا في سوريا ونتقدم أيضاً بهذا الموقف الوطني إلى جميع القوى المخلصة والمحبة. أنا أقول بالنسبة لجبهة الخلاص أصبحت بالنسبة إلينا جزءاً من الماضي".

تحتاج المقولات المتعلقة بقوة الجماعة وتلك المتعلقة بمدى القدرة على التمثيل والتأثير طبعاً إلى تمحيصٍ دقيق.. خاصةً عندما ندرسها في إطار مُعطيات التاريخ والواقع. وتحتاج مسألة الدخول في التحالف المذكور والخروج منه إلى وقفة تحليلٍ كبيرة كما ذكرنا، خاصةً عندما يدخل مفهوم (الهدية) كعاملٍ في صناعة المواقف والقرارات السياسية.. لكن المشكلة الأساسية تكمن في هذا التماهي الظاهر بين الجماعة من جانب وبين الأمة بأسرها من جانب آخر. فالتصريحات المذكورة توحي بقوة بعبارة (أنا الشعب والشعب أنا) وربما بعبارة (أنا الأمة والأمة أنا). والأنا هنا هي الجماعة بطبيعة الحال. هكذا، يمارس المرء السياسة على أرض الواقع، وبأكثر تجلياتها براغماتية، ويتحرك في إطار قضيته الخاصة جداً. ثم يترفع عنها على صعيد التنظير، ويربط حركته العملية بمصلحةٍ عامةٍ عليا يمكن بواسطتها تبرير كل قرار أو موقف.

عودةً إلى راهن الثورة السورية، هناك الكثير مما قيل وسيُقال عن ممارسات الجماعة المنبثقة عن طريقة التفكير وصناعة القرار فيها خلال السنوات الثلاثة الماضية. لكننا سنركز فقط حالياً على ماحصل خلال الأسبوع الماضي عندما قرر الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية حضور اجتماعات مؤتمر جنيف2 العتيد.

فقد أصدرت الجماعة أكثر من بيان علني قبل صدور القرار تضع فيها ما هو أشبه بالشروط لحضور المؤتمر. لكن الشروط لم تتحقق، وكانت المفاجأة عندما صدر القرار أن الجماعة كانت موجودة في الوفد المفاوض بعضوين على الأقل هما السيدان نذير الحكيم وعبيدة نحاس.وعندما تصاعد اللغط حول مشاركة الإخوان أصدرت الجماعة البيان المقتضب التالي:

نفي من جماعة الإخوان المسلمين في سوريا حول وجود ممثل لها في مؤتمر جنيف2
ذكرت وسائل إعلام أن جماعة الإخوان المسلمين في سوريا أوفدت ممثلا إلى مؤتمر جنيف2 برفقة وفد الائتلاف.

لقد كان موقف جماعة الإخوان المسلمين من مؤتمر جنيف2 واضحا في رفضها مشاركة الائتلاف بالمؤتمر الدولي لقناعتها بعدم جدواه واحتجاجا على تخاذل المجتمع الدولي، وقد صوت ممثلو الجماعة في الائتلاف برفض المشاركة، كما نص قرارها على ألا يكون لها ممثل في الوفد المشارك في جنيف2.
ولذا فإننا في جماعة الإخوان المسلمين ننفي نفيا قاطعا إيفاد الأستاذ نذير الحكيم أو أي شخص آخر ممثلا عن الجماعة في مؤتمر جنيف2، مؤكدين عدم مشاركتنا في المؤتمر الدولي.

المكتب الإعلامي- جماعة الإخوان المسلمين في سورية
21 كانون الثاني/ يناير 2014م الموافق 20 ربيع الأول 1435هـ
هكذا، مرةً أخرى، تُصدر الجماعة إعلاناً في اتجاهٍ معين، وتسير عملياً في الاتجاه المعاكس. تضع قدماً هنا وتضع القدم الأخرى هناك. تحاول إرضاء الجماهير من جانب، وإرضاء القوى الإقليمية والدولية من جانبٍ آخر. توزع الأدوار بين (ممثليها) الرسميين والفعليين بحيث يأخذ البعض موقفاً ويأخذ الآخرون موقفاً مغايراً. المشكلة أن هذا كله يجري على أساس أنه حنكةٌ سياسية، وقد يجري تبريره داخلياً شرعياً وسياسياً بأسباب عديدة لايفتقد القدرة على إيجادها أي باحثٍ عن الفتاوى التبريرية.

يقول البيان إن السيد الحكيم، أو أي شخص آخر، لم يوفد ممثلاً عن الجماعة.

حسناً، ماهي صفة الرجل إذاً؟ وهل ستحاسبه الجماعة على خروجه على قرارها؟

وماذا بشأن السيد نحاس الذي كان يحضر اجتماعات القيادة إلى ما قبل فترة ممثلاً للمراقب العام السابق السيد علي صدر الدين البيانوني حين كان لا يستطيع حضور الاجتماعات؟

ولماذا ذَكرَ المراقب العام الحالي، السيد رياض الشقفة، في جلسةٍ له منذ أسبوعين، حسب بعض أعضاء المجلس الوطني، أن المجلس لن ينسحب من الائتلاف في حال التصويت للذهاب لجنيف2؟

وما معنى ماقاله ممثل الجماعة الأول في الائتلاف السيد فاروق طيفور يوم صدور قرار الأمانة العامة للمجلس الوطني بالانسحاب من الائتلاف بحال موافقة الائتلاف على الذهاب إلى جنيف خارج محددات الثورة، حيث قال يومها، حسب شهود كثر منهم السيد خالد زيني عضو المجلس، بالحرف الواحد: "شو مفكرين حالكون انتو المجلس الوطني، مين انتو؟". علماً أن السيد طيفور ظهر على قناة الأورينت بعد صدور قرار المشاركة ودافع عنه.
ولماذا يتواجد في جنيف السيد أحمد رمضان وبعض معاونيه، علماً بأنه كتب أكثر من مرة منتقداً قرار انسحاب المجلس الوطني من الائتلاف، ويُعتبرُ من أكبر الداعمين لحضور جنيف؟
لسنا هنا في معرض تقويم المؤتمر المذكور، ولا في مقام الحكم على حاضريه، ولامشكلة في رأينا لمن حضرَ وهو يقول علناً، وبالفم الملآن كما يقولون، أنه سيحضر.

لكن المشكلة تكمن في ممارسة الشيء والقول بنقيضه، وفي امتهان مثل هذه المناورات وعمليات توزيع الأدوار وغيرها من القضايا على سبيل الشطارة والفلهوة، والظن بأن هذا يُعتبر فكراً سياسياً.

وأدهى مافي الموضوع أن يُعتبرَ هذا الخلط كلهُ في نظر الجماعة، وكثيرٍ خارجها، على أنه طريقة عمل (الإسلاميين) في المجال السياسي، وعلى أنه يُعبرُ عن فكرهم السياسي.

والحقيقة أن هذا الانطباع الأخير السائد هو السبب الرئيس وراء كتابة هذا المقال.

فالأمر يتعلق بشأنٍ عام له علاقة، ليس فقط بحاضر سوريا ومستقبلها، بل بمجمل خارطة القوى السياسية والفكرية العربية، وبدورها الحالي والمستقبلي في التغييرات الكبرى التي شهدتها المنطقة وستظل تشهدها إلى فترةٍ قادمة.

ثمة نماذج عديدة على الفكر السياسي المأزوم في واقعنا الراهن، فالأمر لاينحصر في جماعة الإخوان المسلمين. ولن يمكن تصويب الواقع، وتوجيه التغييرات المذكورة في خدمة إنسان المنطقة، والارتقاء لمقام التضحيات التي يقدمها السوريون وغيرهم بحثاً عن حياةٍ جديدة، في معزلٍ عن فتح جميع ملفات ذلك الفكر المأزوم وتحليل مضامينه والحوار فيها بكل شفافيةٍ ووضوحٍ وصراحة.

من كتاب "زمان الوصل"
(122)    هل أعجبتك المقالة (121)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي