جنيف والمتاجرة بالمسيحيين
يصدق على كلمة وليد المعلم المثل الشعبي القائل "يقتلون القتيل ويمشون في جنازته"، فقد اتهم جميع الحاضرين بالإرهاب وبالمسؤولية عن الدم السوري، فيما نظامه حمل وديع، وبريء من المجازر المرتكبة خلال السنوات الثلاث الأخيرة، وآخرها التعذيب والقتل الوحشيان اللذان طالا 11 ألف سوري في السجون والمعتقلات.
كانت كلمته في افتتاح مؤتمر جنيف تكاد تقول للسوريين والحاضرين "تعالوا وعودوا إلى النظام... عودوا إلى الماضي فهو أفضل خيار لمستقبلكم". لغة الكلمة غير مفاجئة، فهي اللغة ذاتها التي ظل النظام يلقيها طوال نصف قرن على مسامع الشعب السوري، على الرغم من إدراكه أن الجميع يعرف سياساته وحبائله وممارساته، فقد كان العنصر المركزي في خطابه ولغته على الدوام هو الكذب، وعلى الرغم من معرفته لحقيقة أن الآخرين، من سوريين وغير سوريين، يعرفون أنه كاذب، إلا أنه مع ذلك كان يستمر في الكذب، ساعياً إلى تحويل كذبه إلى وجهة نظر مع مرور الزمن في مواجهة حقائق الآخرين.
كم كان الخطاب مبتذلاً عندما توجه المعلم في حديثه بالتخصيص إلى وزير الخارجية الأميركي تحديداً "لا أحد في العالم سيد كيري... تسمعني يا سيد كيري" في سعي بائس لاستعراض قوة وهمية يمكن أن يطبل ويزمر لها موالوه على مدار أسابيع، على الرغم من أن واحدة من النقاط المركزية في سياسات النظام هي أنه لا يقيم اعتباراً أو وزناً في العالم إلا لأميركا وإسرائيل، لأنه يعلم أن قرار بقائه أو رحيله يتخذ فيهما، ولذلك يسعى لإرضائهما بوسائل شتى حتى لو خلع جميع ملابسه، ولطالما كان يتمنى –خاصة اليوم- أن تعترف به أميركا عضواً في نادي الدول المكافحة للإرهاب.
بعد أن سقطت جميع أوراق الشرعية الوهمية التي استند إليها النظام طوال عقود، كالمتاجرة بالقضية الفلسطينية و"الممانعة" و"مناهضة السياسات الأميركية" و"تحرير الجولان" و"العداء لإسرائيل" و"دعم المقاومة" و"القومية العربية"... إلخ، أخذ يبحث عن مصادر أخرى للشرعية فلم يستطع، فما عاد بالإمكان إيجاد شرعية لبقائه حتى لو كانت كاذبة، فاستعاض عنها بعدد من "أوراق القوة"، وهذه تمثلت في جانبين اثنين هما "مكافحة الإرهاب" و"حماية المسيحيين"، فقد اختزل "حماية الأقليات"، التي كان يروّج لها، بالمسيحيين لما هو معروف من تأثير ذلك في الغرب. العنصر الجامع بين هاتين الورقتين هو "الشحادة"، أي شحادة بقائه في السلطة من الغرب والأميركان، فهو ما زال يتصرف معتقداً أن الآخرين أغبياء، ولا يعرفونه عندما يحاول التنكر، مرة في لباس "حامي المسيحيين" وأخرى في زي "المكافح للإرهاب".
كان لافتاً أن يكون الأسقف هيلاريون كبوجي، كعضو من أعضاء وفد النظام السوري، بخاصة أنه ليس لديه أي وظيفة تفاوضية أو غيرها، وهي محاولة بائسة من النظام "العلماني" يستعرض فيها "احتضانه للمسيحيين"، كالمحاولات البائسة الأخرى التي كان يقوم بها في فترات سابقة، والتي جوهرها الدائم هو "الادعاء". ربما ليس لديه حاجة اليوم لإظهار موضة التعايش الديني المبتذلة التي حاول إيصالها في السابق، وإلا لكان جلب معه مفتيّه الأعظم، وطلب عندئذ من الأسقف والمفتي أن يتعانقا ويقبلا بعضهما أمام الحاضرين في المؤتمر لإيصال رسالة التعايش الديني التي يعيشها السوريون في كنف النظام "العلماني".
ما يثير السخرية أن "العلمانية" لدى النظام ومواليه، وبعض الدول الداعمة له كروسيا، وكذلك لدى بعض "اليساريين الطائفيين"، أصبحت تعني "التمسح بالمسيحيين وكسب ودهم"، وهذا بالطبع ليس حرصاً على السوريين "المسيحيين" بل لاعتقاده أن هذا أقرب الطرق اليوم إلى قلب الغرب والسيد الأميركي، بخاصة بعد أن أصبح عارياً من أي عناصر قوة سياسية، ومفضوحاً إلى درجة لم يعد بالإمكان تغطية جرائمه.
السوريون "المسيحيون" بالنسبة للنظام في هذه المسرحية البائسة هم سلعة للاستثمار والمتاجرة السياسية، تماماً كما هي بقية فئات الشعب السوري. هكذا فعل عندما أسر "العلويين" وسعى لتحميلهم وزر أعماله بشكل مباشر أو غير مباشر، وكما يحاول دائماً استخدام السوريين "الدروز". إنه لا يتورع عن اللعب بسائر مكونات الشعب السوري في سبيل البقاء، كما لا يتورع عن استحضار الطائفية واستدعاء الإرهابيين وصناعتهم ولا يتردد في فتح البلاد أمام التدخلات الخارجية من كل حدب وصوب.
على أن أكثر ما يزعج المرء في هذا السلوك المفضوح هو ما يضمره من إهانة للسوريين "المسيحيين" عبر المحاولة بزجهم في خانة الموالين للنظام قسراً، ووضعهم في مواجهة بقية أبناء شعبهم، وهم ليسوا ذلك، فما ينطبق على أي فئة من السوريين ينطبق عليهم. السوريون "المسيحيون" في سياسة النظام ورقة تفاوض وليسوا مواطنين. كل الشعب السوري هو مجموعة أوراق يجري استخدامها واللعب بها في مناسبات مختلفة.
ما علاقة الأسقف بالتفاوض ومؤتمر جنيف؟ كل الأمر أنهم يستخدمونه كـ "تحفة فنية" أو كـ "منتج دعائي" أو ربما أراد النظام أن يقول للغرب أنه المدافع عن هذا "الكائن المهدد بالانقراض" ضد إرهابٍ هو من صنع يديه بشكل مباشر أو غير مباشر. كان بإمكانه أن يجلب أي مواطن سوري "مسيحي" يرتدي لباساً عادياً بين أعضاء وفده المفاوض، لكنه أراد عملاً مفضوحاً وواضحاً وصفيقاً.
أما بالنسبة للأسقف المبجل، الذي لا يمثل إلا نفسه بالطبع، فلا يمكن إلا أن نقول بئس رجل الدين الذي يضع نفسه في خدمة السلطان من أي دين أو مذهب كان، بئس رجل الدين الذي يغطي القتلة أو يتعاون معهم، بئس رجل الدين الذي لا يتورع عن المشاركة في اللعب على وتر التنوع الديني والمذهبي، بئس رجل الدين الذي لا يفكر بمصير شعبه ومستقبل العلاقة بين مكوناته، بئس رجل الدين الذي لا يدرك أنه لا يمكن لفئة من السوريين أن تعيش بخير إذا لم تكن سورية كلها بخير وجميع مكونات شعبها الأخرى بخير.
أليس من المفارقة أن تكون أكبر حركة هجرة للسوريين المسيحيين من سورية قد جرت في ظل حكم في ظل النظام "الحامي للمسيحيين"، فبينما كانت نسبتهم تشكل 20% من سكان سورية عند الاستقلال عام 1945، فإن هذه النسبة لا تتجاوز اليوم 7% من عدد السكان. أليس غريباً في ظل "النظام العلماني" أن يكون السوري "المسيحي" مواطناً من الدرجة الثانية من حيث حقوقه السياسية، فلا يحق له مثلاً أن يكون رئيساً للجمهورية؟! أليس غريباً في ظل النظام "الحامي للأقليات" أن يتحول السوري "المسيحي" من مواطن إلى "كائن مرعوب" يُدفع للانعزال، رغماً عن أنفه، عن وسطه ومحيطه الحيوي؟! هذا ليس غريباً في نظام يلعب بالأقليات ولا يحميها.
السوريون "المسيحيون" جزء لا يتجزأ من هذا الوطن قبل النظام وبعده، وهم يعيشون على هذه الأرض منذ آلاف السنين، ولا فضل لأحد في بقائهم على أرضهم التاريخية، وقد ساهموا كغيرهم في بناء الحضارة السورية على مر العصور، وهم ليسوا بالتأكيد من إنجازات "الحركة التصحيحية" أو "مسيرة التطوير والتحديث". إنهم مواطنون سوريون في بلدهم، ولا منّة لأحد عليهم.
من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية