في حضرة صور أحد عشر ألف شهيد... أقف لأكتب عن وطني الشهيد.
لا تملؤني المرارة والحسرة... فلن نقتل شهداءنا مرتين... بل لن نقتلهم مرتين بعد الألف... فمن المؤكد أن كل واحد منهم مات ألف موتة تحت سياط جلاديه، وجوع أيام الاعتقال، قبل أن يلقى وجه ربه.
لن تملؤني العزة والفخار الآن... فقد مضى زمن تحويل الشهداء إلى شعارات وخطابات جوفاء. سأكتب مملتئاً بالغضب، وممتلئاً بالألم، ومؤمنا بالحق... وسيكون علينا جميعاً ألا ننسى وألا نغفر وألا نصمت. فالهولوكست السوري يجب أن يبقى حياً، ليس كمادة للطم والمظلومية، وليس كخزان للثأر من القتلة، بل كوقود حي للتمسك بالعدالة، ولتخليد أسماء من مضوا إلى الله، حاملين قضية وطنهم كفناً أبيضاً، وعذابات سوداء بلون سواد هذا العالم.
أحد عشر كوكباً درياً... في كل كوكب ألف شهيد.
أحد عشر ألف رجلاً وشاباً... في جسد كل واحد منهم بصمات الجوع والتعذيب.
أحد عشر ألف قصة أمل، وقصة حياة وحلم ونقاء، وملحمة وطن ينتزع حريته على مقصلة عالم مسكون بالعار والنذالة... عالم كان ينتظر منشقاً عن المخابرات العسكرية لنظام الأسد، لكي يخبره بأقل مما يعرف، ولكي يحمل إليه صورهم الباردة... في حضرة موت بارد، لتنشرها وكالة أنباء الأناضول التركية في العشرين من كانون الثاني (يناير) 2014 ولتصبح في عهدة ضمير عالمي... لم يشهد تاريخ البشرية كله، انحطاطاً لقيمه، وادعاءات فاجرة بعجزه، وتعبيراً جلياً عن نذالته.
مات هؤلاء بلا ألعاب نارية تضيء سماء سجونهم، ولا وعود بإدخالهم إلى كتاب (غينيس) للأرقام القياسية... ولا أي حديث عن وضع من عذبهم في سجونه حتى الموت على لائحة الإرهاب الدولي. فمن قتلهم مازال نظاماً معترفاً به في الأمم المتحدة، ومازال مندوبه يشغل مقعد وطنهم، ومازال فنانوه المؤيدون لجرائمه، يرحب بهم في دول تسبح باسم الله، ولا يخشى حكامها أن يسألوا عما فعلوه لنصرة هؤلاء، حين يقفون بين يدي المولى!
لن تصنع مهرجانات سينمائية أو مسرحية لهؤلاء... فقد أسدل المسرح ستارة عروضه الأخيرة، وأقفلت الشركات والدول ميزانيات إنتاج أفلامها، وانفض السادة المشاهدون والنقاد والمتفرجون، خرج الجميع من ضمائرهم وإنسانيتهم، وصاروا أعجز من أن يفتحوا عيونهم المتعبة من السهر، ليروا حجم الجريمة التي ترتكب بحق شعب رفع شعار (الموت ولا المذلة) فشجعوا جلاديه على إهدائه الموت، وجعلوا من مذلة السكوت على قتلهم عاراً يلبس القرن الحادي والعشرين كله؟!
هل من ألبوم يتسع لخمس وخمسين ألف صورة؟!
هل من كتاب أرقام قياسية يمكن أن يفرد صفحاته لهذا الكم الهائل من الوجوه والأجساد المعذبة؟!
هل من حائط مبنى، أو مطلات نوافذ، يمكن أن تلم بهذا المشهد البانورامي المسكون بالجريمة والأذى؟!
لن يصدق التاريخ ما جرى... أرجوكم وثّقوا كل شيء بالتفاصيل، فقد لا يصدق أحفادنا... لن تستوعب الذاكرة أن هذه الصور هي من إنجازات فرع واحد من فروع أمن مخابرات الأسد... لأن الأجيال القادمة ستسأل: كيف أمكن لكل هؤلاء وغيرهم أن يقتلوا وسط صمت العالم، هل ماتوا وسط الهمسات؟! كيف أمكن لجلاديهم أن يجمعوا هذا الكم من الصور لهم؟!
هل تتخيلون أي جهد بذله الجلادون في قتل كل هؤلاء الآلاف... كم تعبوا في تعذيبهم... كم صموا آذانهم عن صراخ الألم والرعب والجوع يصدر عن شركائهم في محرقة صار اسمها الوطن... كم صبروا على قتل كل ذرة إنسانية في أعماقهم؟!
ربما يصعب أن تتخيلوا... لكن نظام الأسد أعفاكم من التخيّل أيتها الأجيال القادمة... وقد أعفاكم العالم معه من تصديق أنه خلال ثلاث سنوات كان عاجزاً عن وقف هذا الهولوكست اليومي، فقد تمسك العالم بعجزه المدهش، كي يجمع لكم الأسد كل هذه الصور. وكي يؤكد لكم أن ما حدث قد حدث بالفعل... وما عليكم سوى أن تحفظوا الحكاية.
أما السوريون الذين عاشوا في زمن الهولوكست، السوريون المشردون في الخيام، السوريون المطرودون من المطارات، المرحلون كرجس من عمل الحرية، المحرمون من حق ضيافة الأخ المنكوب... فقد عاشوا الحكاية. رأوا تفاصيلها يوماً بيوم. بكوا وانقهروا وتألموا وبحثوا عن صور أحبتهم بين ركام صور الشهداء، وكُذبّوا، وتابعوا بث محطات زورت وفبركت قصص مخزية عن موتهم الجماعي... لكنهم لم يهنوا ولم ييأسوا.
ودعوا بعضهم بعضهم، مرة إلى موت كيماوي رحيم، وأخرى إلى موت بطيء، وثالثة تحت أنقاض صواريخ السكود... ورابعة إلى موت على البث المباشر بالبراميل المتفجرة... ومن نجا منهم عاش ليقول للعالم كله: من ماتوا أمام أعينكم هم أهلي وإخوتي وأصدقائي وأولاد بلدي... إن أشحتم بوجوهكم عن موتهم، فإن شهادتهم تسكن أرواحنا، وصورهم تملأ ذاكرتنا، وأسماءهم هي أسماؤنا... وجريمة قتلهم والتنكيل بهم هي عاركم ووديعة دنيانا وآخرتنا... وعندما نقف جميعاً بين يدي من لا تضيع عنده الودائع سنرفع شكوانا فيمن تخاذل عن نصرتنا، ومن صم آذانه عن استغاثتنا، ومن مازال يفتح حدود بلدانه لمن ساندوا الجلاد، وهتفوا له، فكانت خصلة طاعة سفاح العصر وتأييده، أهون عليكم من آثام الحرية، وأحلام العدالة، وحق العيش بكرامة لدى شعب لم يهدكم يوماً سوى الطيبة والإيمان بالعمل والحياة.
لم يكن هؤلاء أرقاماً ولن يكونوا رغم فداحة تلك الأرقام... استشهادهم لن يكسر ظهورنا، ولن يلين عزيمتنا، ولن يحمل لنا وعود الهزائم وذل التسويات طال الزمن أم قصر. استشهادهم كان قربان حريتنا، وكان عنوان وحدتنا الوطنية... وحدة دم الشهداء وأهاليهم، في مقابل وحدة دم السفاح وأبناء طائفته البررة من الذين بذلوا كل تلك الجهود في التفنن بالتعذيب والتجويع حتى الموت!
نعم إنه عنوان درس الوحدة الوطنية، فلا يمكن لوطن أن يفخر بأن بعض أبنائه على هذه الدرجة من الوحشية والهمجية التي لا تختزلها قيادات معدودة في نظام عائلي وطائفي وحسب.. فقد حفر كل جلاد من هؤلاء –مهما كان انتماؤه– قبره، قبل أن يرسل هؤلاء الشهداء إلى قبورهم.
لن تفلح عقول البعض المشوشة من إلباس حق القصاص تهمة الانتقام الجاهزة... فالعدالة لا تخجل من معاييرها... وسيأتي اليوم الذي نقول لهؤلاء (وامتازوا اليوم أيها المجرمون) ثم نقرأ الفاتحة على أرواح شهدائنا، ونحرس قبورهم، مثلما سيحرس أبناء الشر والهمجية بيوتاً غدت مقبرة لإنسانيتهم الموؤودة بأيديهم وعقولهم، وغبش عيونهم الذي لم ير من رد على معركة الحرية سوى: (الأسد أو نحرق البلد)!
أحد عشر ألف شهيد... فوق مائة وخمسين ألف شهيد... فوق مئات الآلاف من المعتقلين، فوق ملايين من المشردين... حتى نصل نحن إلى الحرية وأنتم إلى رؤية وجوهكم عارية من جبروت القوة في مرآة وحشية أفعالكم ونفوسكم.
يا له من مشهد!
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية