لماذا تصر أمريكا على عقد جنيف...؟
استخدمت الولايات المتحدة في الملف السوري فريقا ديبلوماسيا سبق له أن خدم في العراق. وبذلك نقلوا معهم وجهة نظرهم عن المقاومة العراقية ليسقطوها على الثوار المجاهدين في سوريا، وأدت عقدهم ومخاوفهم المتراكمة من تجربتهم في العراق كجيش احتلال، لفقدان تعاطفهم مع الثورة السورية التي تدعي أمريكا صداقتها، فكانت تقاريرهم تشوه الصورة لدى الإدارة البعيدة، وسلوكهم ينم عن التخوف والكراهية أكثر من المودة والمساعدة.. حتى سادت في واشنطن القناعة بأن انتصار الثورة يعني انتصار القاعدة -العدو الألد-، فتحولت السياسة الأمريكية عن دعم الثورة لمحاولة فرض خيار ثالث لا تنتصر فيه الثورة "الإسلامية المتطرفة" ولا النظام الحليف لإيران.. ولكون هذا الخيار لا حامل عسكريا أو اجتماعيا له، بسبب الاستقطاب المجتمعي والإقليمي، وجدت الخارجية الأمريكية في مسار جنيف الروسي التصميم، والهادف لإنقاذ النظام، وسيلة لتجميع "المعتدلين؟" من الطرفين، وتشكيل خيار ثالث.. وتنازلت للروس عن شرط رحيل الأسد، بهدف التعاون لتشكيل حالة وسط ما بين الطرفين، قافزة فوق المشكلة ومسببها وفوق سنوات من الحرب والجرائم التي فاقت كل تصور، وكأن شيئا لم يكن.. وتبين بعد تعرقل هذا المسار وتأخره لسنة ونصف، أن هذه السذاجة السياسية لا أمل لها بالنجاح في ظل حرب ضروس ورطت الجميع وطالت كل شيء، وحرضت ذكريات صراع إقليمي تاريخي طائفي سياسي قومي متجذر في التاريخ. وعليه تبين أن صيغ الحل الوسط لا مكان لها في سوريا، التي هي أمام خيارين: إما أن تحافظ على هويتها التي هي هوية الأغلبية، أو أن تندثر كدولة وتتشظّى، بعد تحويل الأغلبية العربية السنية لأقلية بواسطة المجازر والتهجير والإبادة.
وعليه أصبح عدم انعقاد جنيف يعني فشلا شخصيا لوزير الخارجية الأمريكية مهندس هذه الفكرة، الذي يضغط بكل ما أوتي لمجرد عقد جنيف بأي وسيلة وأي شكل وبمن يقبل الحضور. ولا يهمه بعد انعقاده لو فشل المجتمعون، فالفشل يومها سيكون فشلهم هم وليس فشل كيري- لافروف، و مثل هذه الشخصنة والأنانية الواضحة في السياسات لا تهتم بمقدار الألم والمعاناة المترتبة عنها.. وهي أيضا بالإضافة إلى لا أخلاقيتها تمثل سياسة النعامة التي تدفن رأسها في التراب وتتنكر لكل الواقع.
منذ البداية عمل الفريق الديبلوماسي الأمريكي من أجل الهيمنة على قرار الثورة، واختار لهذه المهمة من يسمع ويطيع من رموز المعارضة الخارجية والداخلية، بل من تسبب في فشل قيادتها، وعطل عن عمد وإصرار أي إنتاج لقيادات حقيقية ترتبط بالأرض، وقدم المساعدات بطريقة ملتبسة بحيث يكون ضررها أكثر من نفعها، وكان الهدف دوما هو الحفاظ على التبعية.. كما جاهد هذا الفريق لكي يفتت مكونات المجتمع السوري ويحطم وحدته، بتشجيع كل الأقليات على التمايز والابتعاد عن الأغلبية، وركز على افتعال قضية حقوق وحماية الأقليات، بينما التي تذبح هي الأغلبية، و عمل على فرط العقد الوطني التاريخي الذي كان برعاية الأغلبية وضمانتها، ووجه دعمه لتحالف الأقليات والعلمانيين والشيوعيين، في مواجهة العروبة والإسلام، ونصّب الديمقراطية نقيضا للهوية والدين والثورة أيضا، وجعل ممثلي الثورة المزعومين وكلاءه يسيرون مبتعدين عن الثورة وعن قيمها وأخلاقها وأهدافها.
كما لم تضغط أمريكا كفاية لمنع جيش النظام من دخول المعركة ضد الشعب، بل كانت راضية عن تورطه وتحطمه وتفككه، وغضت النظر عن تحطم بنية الدولة كلها ودمار بنيتها، ربما لكونها دولة مجاورة ومعادية لإسرائيل، وذات نزعة قومية واضحة ودور إسلامي تاريخي.. وعندما مالت الكفة لصالح الثوار المجاهدين، لم تمانع دخول قوات لبنانية وايرانية وعراقية المعركة، فاستنزاف إيران ومحورها هدف استراتيجي أيضا. ثم ترددت في تنفيذ تهديدها بعد استعمال الكيماوي خوفا من سقوط النظام، و سارعت لقبول عودة إيران لصفوف الطاعة بدلا عن توجيه الضربة العسكرية.
ومع استسلام إيران المخادع وتحولها من عدو مناور، إلى صديق متقلب، لم يعد لأمريكا عدو ظاهر في المنطقة سوى الشعوب الثائرة التي تهدد الاستقرار الآسن الذي صار لصالحها، لذلك عادت السياسات الأمريكية لسابق عهدها (دعم أنظمة الفساد والاستبداد والتخلف وقمع الشعوب)، تلك السياسة التي انتقدتها إدارة بوش بعد أيلول 2001. وانتهت مرحلة حاولت فيها الولايات المتحدة تغيير سياساتها في الشرق الأوسط، وعادت أدراجها لسياساتها العدائية السابقة، وصار عليها أن تتوقع موجة جديدة من الكراهية والتطرف تجاه سياساتها ومصالحها. أقلها تلبس الثوار شكل القاعدة في كل مكان في الشرق الكبير كعنوان وإعلان عن كراهيتهم.
بعد حادث أيلول 2001 تبنت الولايات المتحدة سياسة هجومية ضد الإرهاب، وعملت على محورين الأول ضربات عسكرية لمواقع التنظيمات التي تصنفها إرهابية (ليس لطبيعتها بل لعدائها لأمريكا فقط)، ومحور ثان سياسي مبني على فكرة بسيطة هي أن الاستبداد هو سبب التخلف والعنف والبؤس وهو من يهيئ الأرضية لنشوء الإرهاب. وأن دعم أنظمة الاستبداد والفساد هو رسالة كراهية وحقد لشعوب المنطقة، سرعان ما تولد رد فعل مضاد لأمريكا ومصالحها، ليصبح الإرهاب سلاح الضعيف في مواجهة غطرسة القوي المتجبر.. لذلك لا بد من الدفع نحو الديمقراطية في الشرق الأوسط الكبير، لكن نجاح الإسلاميين في الانتخابات في أكثر من مكان جعل إدارة بوش تتردد في دفعها نحو التغيير الديمقراطي، كما أدى الفشل بعد الضربات العسكرية في إعادة الاستقرار، ليتم الاستعاضة عنها بالحرب الناعمة عبر تجفيف منابع التمويل والاستهداف النوعي للمنظمات وعودة الاعتماد على الوكلاء.
ومع مجيء ادارة أوباما زادت سرعة التراجع عن فكرة دمقرطة الشرق، و عن استخدام القوة، وذلك لصالح الانسحاب من الدور الفاعل في المنطقة، واللعب على التوازنات المحلية؛ ما أدى لقفزة في سوية الاستبداد والفساد الذي فجر الربيع العربي، ومع طغيان المد الإسلامي فيه قررت الإدارة الضعيفة الانسحاب من الشرق الأوسط، وتسليم المنطقة لوكلاء محليين أو أصدقاء دوليين، معلنة إفلاسها النهائي ورغبتها في الانكفاء لمعالجة جراحها الاقتصادية البالغة، الناتجة عن نمو اقتصادات الشرق البعيد.
وبدل أن تلعب أمريكا دورها في قيادة العالم، تترك المنطقة في فوضى عارمة وحالة من الغليان والأزمات المنتشرة في كل مكان، التي سرعان ما تنفجر حروبا أهلية و إقليمية وربما عالمية، نحن نعتبر أمريكا أحد أهم مسبباتها كونها هي من جاءت بأنظمة الفساد والاستبداد وهي من دعمتها وثبتتها، وعلى رأسهم نظام آل الأسد الذي تسعى مع روسيا لإنقاذه، من خلال مسار جنيف بأي وسيلة وطريقة.
وللعلم فإن سياسات الأنظمة الغربية هي المسؤولةعن سفك الدماء،وعن الحروب القادمة التي تدق الأبواب في الشرق الأوسط، ومع ذلك تحمل راية السلام لتخدع بها شعوبها.
شكرا أيها الصديق، الذي لا يفهم الصداقة سوى تبعية وتخليا عن الحرية والهوية والعقيدة. أما نحن كعرب مسلمين نسكن هذه المنطقة ونشكل أغلبيتها، فخيارنا حين يعجز العقل والمنطق والحق.. إلى الحرب سر.. حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية