تنظيم "الدولة".. سبحان الذي "نزهكم" عما تتهمون به الآخرين!

من البداية سأقولها صريحة.. لو لم يكن لدى تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" سوى خطيئة ادعاء العصمة، وتنزيه النفس إلى درجة رفعها لمرتبة "الملائكة" الذين خلقهم الله ملازمين تماما للطاعة مجانبين بالكلية للمعصية.. لو لم يكن لدى هذا التنظيم سوى هذه الخطيئة، لكفت لرفضه بل وللفظه، فجل المساوئ التي يجرها الإنسان على نفسه والآخرين تبدأ من تقديسه لنفسه، وتنزيهه إياها ووضعها فوق مرتبة البشر، وهو لم يقل به حتى الأنبياء الذين هم "صفوة الله" من خلقه.
وحتى نكون مستندين إلى وقائع، سنذكّر بأن معظم -إن لم يكن كل- المشاكل والخلافات التي شجرت بين تنظيم الدولة وبين تنظيمات أخرى تنشط على الأرض السورية، تتدرج –وللحق- من تنظيمات شبه تشبيحية إلى تنظيمات جهادية لم يؤثر عنها إلا مقارعة النظام بقوة.. كل هذه المشاكل والخلافات كان الصواب فيها إلى جانب "الدولة"، بينما الباطل وأهله في جانب خصمها!
وليس هذا فحسب، بل إن "الدولة" التي لم تعترف حتى الآن بخطأ واحد في كل الوقائع والمشاكل، كانت إذا "تنازلت" في يوم من الأيام ورضيت بالقضاء والتحكيم، تصر على أن يكون القضاء في محاكمها والتحكيم لدى شرعييها؛ بذريعة أن قضاة التنظيمات الأخرى –مهما علت رتبهم في العلم الشرعي- مشبوهون غير مأمونين، أما قضاة الدولة فهم الذين لاتقبل أحكامهم الشك، ولا قراراتهم الجدال؛ ربما لأن "عصمتهم" من "عصمة" تنظيمهم، و"عصمة" تنظيمهم من "عصمة" أميرهم البغدادي، متناسين حديث النبي صلى الله عليه وسلم، الذي يقول فيه: (إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له بنحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار)، وفي هذا الحديث كما لايخفى إقرار بأن القضاء لخصم بغير حقه، يجري حتى على الأنبياء، فكيف بمن هم دونهم من الخلق، ممن لا يبلغون عشر معشار ما أوتي الأنبياء من تقى وعلم وعدل؟!
أما حوادث القتل التي ارتكبها التنظيم بحق مقاتلين من التنظيمات الأخرى فلها شأن أعظم، مأخوذ من عظم حرمة النفس، فبعض هذه الحوادث كانت "الدولة" ترده إلى باب القتل "تأولا"، أي قتل الخصم لإقدامه على فعل أو نطقه بقول فسره القاتل على أنه كفر أو ردة، وهذا ما اعتذرت به "الدولة" حين قطعت رأس "أبو عبد الله الحلبي" محمد مروش في حلب.
ومع إن "الدولة" أقرت أيضا بإقدامها على حوادث قتل بالخطأ، لكنه لم يسبق لها أن اعترفت ولو لمرة واحدة بالقتل المتعمد عن سبق تبييت، عبر جز رؤوس عناصر التنظيمات الأخرى.. اللهم إلا عندما نشب الاقتتال الأخير، وخرج العدناني (المتحدث الرسمي باسم الدولة) ليقول بلغة تأنفها حتى "الجاهلية الأولى" إن "أنيس مقاتلي الدولة الأشلاء، وشرابهم الدماء، وليس لديهم أشهى من دماء الصحوات"، في إشارة إلى كل الكتائب التي قررت أن تهجر السكوت عن تجاوزات "الدولة"، وتردعها عن "بغيها".
وهنا لنا سؤال حساس: أليس من المثير للانتباه أن يكون القتل تأولا، بنفس طريقة القتل عمدا، أي جز الرؤوس؟، أفلا يخشى التنظيم أن يُستشف من ذلك أنه كان -ومنذ البداية- يعد مقاتلي الفصائل الأخرى "مرتدين مع وقف التنفيذ"، حتى قبل أن يقرروا مواجهته، وعندما وقعت المواجهة صاروا "مرتدين أصليين" لايتوجب قتالهم فقط، بل قتلهم وتمزيق أجسادهم بالمفخخات.
ثم ألم يلاحظ أحد أن عدد ونوع المفخخات التي تفاخر "الدولة" بإرسالها إلى "المرتدين" طيلة أسبوعين تقريبا من الاحتراب، تفوق كل حجم ونوع التفجيرات التي استهدفت بها "النظام النصيري"، حسب وصف "الدولة"، منذ بدأت مقاتلته.
ومع ما كل ما أوردته آنفا، وسأورده لاحقا، فإن شهادة الحق تقتضي أن نقول إن أي تقاطع أو تشابه بين أي تنظيم وبين النظام، أمر غير كاف للحكم بتبعيته الكاملة له، لعدة عوامل أولها اتساع قاعدة تنظيم الدولة واستقطابها عددا كبيرا من الشباب الذين قدموا من مختلف أنحاء العالم، متوسمين "الخير" في التنظيم، وآملين أن يحقق لهم أمنياتهم بالجهاد على "الأرض المباركة".
أما أهم العوامل التي تعوق إطلاق حكم نهائي بشأن عمالة التنظيم بالكلية، فتتمثل في أن نظام الأسد –أباً وابناً- "يجيد" خلط الأوراق، ودس العملاء المخابراتيين، ولدى كل ذي بصيرة معرفة بأن هناك صفحات ترفع "رايات" تنظيم الدولة وشعاراتها، وهي تدار في حقيقتها من مخابرات بشار وغير بشار، ومنها ما نشرته "زمان الوصل" مؤخرا عن حساب "جندي الدولة" الذي تبين بالدليل أنه رجل مخابرات، ومع ذلك ما زال "متابعو" صفحة هذا "المجاهد" يتزايدون!
ولكن صعوبة الجزم بتبعية التنظيم لمخابرات بشار أو ملالي طهران وربيبهم المالكي، لاتمنع من إصدار حكم شبه قطعي في شأن "سلوك" التنظيم وطريقة تعاطيه مع الأحداث، يمكن قوله بكل مباشرة وصراحة، ويتلخص في أن طريقة تفكير "الدولاويين" تكاد تكون الوجه الآخر لطريقة تفكير النظام، حتى وإن ظهر اختلاف المنطلق بل وتضاربه، فـ"الدولة" وبشار لا يتورعان عن "تحليل" دم كل من يأتي على ذكر أدنى أخطائهم، و"الدولة" وبشار لاينفكان عن تنـزيه نفسيهما وإنزالها مراتب لم يصلها ملك مقرب ولانبي مرسل، و"الدولة" وبشار لايرتكبان الأخطاء، ولايقران بها، وإن أقرا فهي أخطاء بسيطة وفردية وليست ممنهجة، و"الدولة" وبشار لايتأخران في أن يقولوا للناس: إذا ذهبنا، فسيذهب الأمن والأمان و"رغد" العيش، وما الحملة التي قادتها "الدولة" مؤخرا عن تكائر حوادث السرقة والخطف في المناطق التي انسحبت منها إلا ضمن هذا الباب، وكأن الجميع كانوا في ظل "الدولة" يعيشون أيام "المدينة الفاضلة"، التي لم يكن لها وجود على مر التاريخ إلا في عقول الفلاسفة.
وبشار و"الدولة" يرفضان أي نصح يمكن أن يبثه لهما أي "صديق" إذا ما تعلق الأمر بالتنازل عن بعض مكاسبهما، وهما على استعداد لـ"استعداء" الأقربين قبل الأبعدين عندما تتعلق النصيحة بإبداء بعض "التواضع" أو "الرأفة"، وبهذا المعنى كسبت "الدولة" وعن جدارة لقب "الخوارج"، ليس بمعناه الشرعي التاريخي-الذي يحتاج لمزيد ضبط وتمحيص قبل إنزاله على واقع التنظيم حاليا- بل بالمعنى اللغوي، الذي يشير إلى "خروج" تنظيم البغدادي على رؤية وتوجيهات بل وفتاوى "أكابر" الجهاديين المعاصرين، ومنهم: "الظواهري" و"المقدسي" و"أبو قتادة" و"أبوعياض".
بل لقد وصل تسويغ "خروجهم" عن رأي أقطاب الجهاد، حتى قال أحدهم: "رسالتي لجنود الدولة: لايغرنكم بيانات المشائخ واختلافهم معكم فقد خالف الفاروق أبا بكر، فثبت وماضره ذلك".. وهكذا صار "البغدادي" عند "الدولاويين" بمنزلة أبي بكر، الذي مضى إلى قتال المرتدين بكل عزيمة وثبات، رغم تباين الآراء في ضرورة قتالهم، لكون حالتهم مستجدة، باعتبارهم امتنعوا عن أداء الزكاة فقط.
وقد وصل الأمر في تطابق "التفكير" بين بشار و"الدولة" أن رأيت بأم عيني واحدة من كبرى صفحاتهم، تنشر تصميما يحوي شعارات عدة قنوات إعلامية، وقد كتب في أعلاه "قنوات الفتنة"، فقط لأنها تنقل ما يوضح أنباء الاقتتال الأخير –من وجهة نظر سياستها التحريرية-، تماما كما كان بشار يفعل -وما زال- مع كل قناة تنقل صورة وأخبار الثورة السورية.
أما أهم تطابق بين طريقة تفكير بشار و"الدولة" فهو أن كليهما قادران على نسف "وطنية" و"دين" أي شخص بمجرد أن ينشق عنهما، وتحويله إلى "عميل خائن" و"كافر مرتد"، كل بحسب القاموس الذي يرجع إليه!
ومع ذلك فإن كل ما ذكرته أعلاه، يمكن أن يهون، بل وربما يمكن إيجاد "تعليلات" -ولو ملتوية- له، اللهم إلا الخطوة الأخيرة التي أقدم عليها "الدولاويون" والمحسوبون عليهم حينما قرروا فتح النار على تنظيمات أخرى، وبالأخص الجبهة الإسلامية، وفي مقدمتهم "أحرار الشام" و"جيش الإسلام"، عبر حساب أسموه "ويكلكس صيدنايا".
ولندع الحكم على صحة كل الروايات التي يسوقها "مؤسس" هذا الحساب، لأن الحكم المبرم غير ممكن أولاً، كما إن البحث في حقيقتها سيفتح باباً لجدل لاينقضي بين مكذب ومصدق، ونفي وإثبات، وسلسلة لاتنتهي من الرد والرد المضاد، ولنشتغل قليلا على مضمون "ويكلكس صيدنايا".
لقد اطلعت –شخصيا- وقرأت أول "رشقة" من التغريدات التي أنزلها الحساب خلال الساعة الأولى من استئناف افتتاحه، فكان أول انطباع خرجت به هو نفس الفكرة التي بدأت بها المقال، وهي أن عناصر "الدولة" ومناصريها، لايرون في الوجود أكمل ولا أنزه ولا أحكم من تنظيمهم، ولا حصانة ضد الباطل إلا لديهم، ولا أحدا عصيا على الاختراق سواهم، فهم الرقم الأوحد الذي له قيمة، وما خلاهم أصفار على الشمال.
أما لماذا هذا الانطباع، فإليكم بعض التفاصيل من "ويكلكس صيدنايا" نفسه، ولنبدأ بقضية الاختراق، التي يعرض الحساب أمثلة عليها مرفقا إياها بأسماء، ليخلص إلى أمر سبق أن كشف عنه علي مملوك (واحد من كبار مخابراتيي بشار) بلسانه.. من أن استخبارات بشار لديها خلايا نائمة وعملاء في معظم التنظيمات الجهادية والسلفية، وهو شيء كان يعرفه بالأدلة ثلة من المطلعين على الشأن الجهادي، وبات اليوم –بعد اندلاع الثورة- من المسلمات في عقول كثير من السوريين.
ولاشك أن غير المطلع على مدى "قذارة" استخبارات الأسد، قد "يصدم" بما يعرضه "ويكي صيدنايا" من بعض أسرار الاختراق، ومن ذلك (على ذمة الحساب) أن الذي تولى التحقيق مع أحد التنظيمات الذائعة الصيت هو "نائب أميرهم"، الذي كان في حقيقته ضابطا في جهاز الأمن السياسي، التابع لبشار، وقد اخترق هذا الضابط التنظيم حتى وصل إلى مرتبة نائب الأمير دون أن يدري عناصر التنظيم.
ويمضي الحساب في إيراد أسماء ووقائع وتواريخ من ذاكرة صيدنايا، يتهمهم جميعا بأنهم مخترقون وعملاء ومتواطئون مع مخابرات بشار، باستثناء المنضوين تحت لواء "الدولة" أو المناصرين لها.. وهنا سؤال: إن كانت مخابرات بشار قد اخترقت كل هذا العدد من التنظيمات والأشخاص، ولم يسلم من "شباكها" شرعي ولا مجاهد، فلماذا وكيف استعصى تنظيم الدولة وعناصره على الاختراق، وهم في نفس السجن يخضعون –ظاهريا- لنفس الضغوط والتعذيب، وممارسة الترهيب والترغيب.. سيجيبونك فورا: لأننا تنظيم محصن، وعناصرنا منتقون بعناية، وجرى تدريبهم على مواجهة أقسى الضغوط، وهم فوق ذلك مؤمنون صناديد من الطراز الرفيع.. فأرد بأمثلة عملية من أفواههم: إذن فماذا تسمون كلامكم عن "انشقاق" زعيم جبهة النصرة "الجولاني" عن "الدولة" واصطفافه مع "الصحوات"؟، وماذا تدعون إعدامكم لأميركم "السابق" أبو سعد الحضرمي، بتهمة الردة والتجسس لصالح جهات معادية لكم؟، وبماذا تصفون قولكم عن قياديكم "أبو إبراهيم المصري" إنه عميل زرعته المخابرات المصرية في صفوفكم، وذلك بعد أن انشق عنكم..؟ أليست كل هذه اختراقات، على الأقل في عرفكم.. فسبحان الله الذي "نزهكم" عما تتهمون الآخرين به، رغم إقراركم بمدى خبث مخابرات بشار و"مهاراتها" الاختراقية، التي لم يسلم منها تنظيم صغير ولاكبير، ولا قدر على تحاشيها شخص مهما كان تاريخه.. إلا أنتم وتنظيمكم!
طبعا لا يخلو "ويكليكس صيدنايا" من روايات أشبه بالنكتة، ومنها أن أحد السجناء الذين أراد "مؤسس" الحساب التشنيع عليهم، ﻛﺎﻥ يتمتع بالرفاهية حسب قول الحساب، فـ"ﻋﻨﺪﻩ ﺑﺮﺍﺩ ﻭﻣﺮﻭﺣﺔ ﻭﺗﻠﻔﺰﻳﻮﻥ ﻭأﻧﺘﻴﻦ ﻭﻗﻨﻮﺍﺕ إﺳﺮﺍﺋﻴﻞ، وﻗﻨﻮﺍﺕ ﻟﺒﻨﺎﻧﻴﺔ ﻭأﻛﻴﺪ ﺑﻌﺾ ﺍﻟﻤﺴﻠﺴﻼﺕ!، ﻭأﺣﺪﻫﺎ sex in the city! ﺣﻴﺚ ﺗﻐﻠﻖ ﺍﻟﺴﺘﺎﺋﺮ ﺑﺎﻟﻠﻴﻞ ﻭﻳﺒﻘﻰ ﺍلأخ ﻳﺤﻀﺮ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﺴﻠﺴﻼﺕ إﻟﻰ ﻣﺎ ﻗﺒﻞ ﺍﻟﻔﺠﺮ ﺛﻢ ﻳﻨﺎﻡ".
فسبحان الله كيف يستطيع "الأنتين" –الهوائي- التقاط قنوات إسرائيل في سجن مغلق!، وسبحان من أعطى لمؤسس الحساب بصيرة استطاع أن يخترق من خلالها الستائر التي كانت مرخاة بزعمه على حجرة "الأخ"، حتى رآه يحضر مسلسل "sex in the city"!.
وتبقى نقطة "التغرير" بالمحكومين، لاسيما صغار السن منهم، فهذه "التهمة" التي أطلقها صاحب حساب "ويكيلكس صيدنايا" لم يسلم منها شرعي من شرعيي الفصائل التي تقاوم بغي "الدولة" هذه الأيام، والذين كانوا نزلاء سجن صيدنايا آنذاك، فهل هذه مصادفة أخرى؟!.. لاندري، ولكننا نود أن نسأل: إذا كان لدى تنظيم الدولة وأتباعه منهج قويم وفكر سليم، وهم يشاركون أصحاب "الفكر المنحرف والأهواء" نفس السجن، فلماذا لم يبذلوا ما يكفي من الجهود لـ"التغرير" بالصغار والأغرار من قليلي التجربة، كما "غرر" غيرهم من التنظيمات والتجمعات بأولئك؟.
أما السؤال الذي لا أعتقد أني سأجد له جوابا.. أيها الملائكيون، المنزهون، الصادعون بالحق، المجالدون للباطل، ولو حاربتكم الدنيا بأسرها.. أين كانت كل رواياتكم هذه، عن هذا الكم من انحرافات من يقودون ساحة الجهاد ضد بشار، قبل أن يقرروا الكف عن مداهنتكم وغض الطرف عن أخطاء تنظيمكم؟، ولماذا لم تحذروا من "تشفقون" عليهم حتى هذه اللحظة.. ألا تخافون أن يقف "أهل السنة" في الشام ليحاجوكم أمام رب العالمين عن "كتمان الحق"، وأنتم أول من يعلم أن "الساكت عن الحق شيطان أخرس"؟!
إيثار عبد الحق- زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية