روى المعتقل السابق في السجون السورية (أبو عمر الحمصي)، قصصاً مرعبة عن أساليب وحشية في التعذيب تعرّض لها مع سجناء آخرين في معتقلات حلب وحمص ودمشق وبالذات (الفرع 215)، وكيف كان السجانون الذين تخلوا عن إنسانيتهم يمارسون حرباً نفسية بحق معتقليهم كحرمانهم من الأكل حيناً والحرق والسحل ومنع الماء والهواء والنوم في أحيان أخرى، وما إلى ذلك من أساليب تعذيب بشعة تأنف عنها الوحوش.
حول ظروف وتفاصيل اعتقاله يقول أبو عمر الحمصي لـ"زمان الوصل":
أثناء خدمتي كملازم مجند في فوج تابع للقوات الخاصة في إحدى مناطق ريف جسر الشغور التي تبعد عن اللادقية 65 كم كانت لدي علاقات قوية مع ثوار حي بابا عمرو، فطلبوا مني خلال فترة حصار هذا الحي وبدء اقتحامه من قبل الجيش إيصال أجهزة نت فضائي إلى منطقة سلمية- تلبيسة – الزعفرانة وتم إيصال عدد من هذه الأجهزة بالفعل بالتعاون مع عدد من رفاقي الضباط الذين كانوا يدعمون الثورة سراً، فسهلوا لي الأمر، وقاموا بنقل بعض الأجهزة، وعند محاولة نقل آخر جهاز لقرية الزعفرانة وللنقيب "رواد الأكسح"، تحديداً كان الضابط الذي أتعامل معه في في إجازة بمنطقة الميادين، لذلك لجأت إلى عسكري مجند لدي وطلبت منه إيصال الجهاز عن طريق أخيه وفعلاً قام أخوه بجلب الجهاز من الشخص المتواجد في منطقة المشهد بحلب وكان عم هذا الشاب يعمل كمساعد أول في المخابرات الجوية بحلب، فرأى الجهاز بيد شقيق العسكري الذي كان يخدم لدي فقال له ماهذا الجهاز قال الشاب جهاز ريسفير طُلب من أخي إرساله إلى سلمية فقال عم العسكري بالكشف عن الجهاز فعرف أنه "نت فضائي" فأخذ ابن أخيه إلى المخابرات الجوية، فسألوه هناك من الذي طلب منك إرسال الجهاز فقال لهم أخي أحمد، وهنا أجرى ضباط المخابرات الجوية اتصالاً مع رئيس فرع الأمن العسكري بإدلب "منهل الحسين" الذي قام بطلب العسكري من قائد الفوج وإرساله مستعجلاً إلى الفرع،
وهنا أحسست بخطورة الأمر، فاتصلت مع الشخص المكلف باستلام الجهاز فقال لي أرسله فلان وهو بالشحن على الطريق، وطلب ضباط فرع المخابرات الجوية من شقيق العسكري أن يتحدث مع الشخص الذي يريد استلام الجهاز من داخل الفرع لاستجراره واعتقاله، وبناء على طلب العسكري من قيادة الفوج العسكري اعترف علي أني من طلب منه إرسال الجهاز، وعلى إثر ذلك طلبني فرع الأمن العسكري بإدلب وأخذني ضابط الأمن ومقدم ورقيب متطوع بسيارة عسكرية إلى مفزرة الأمن العسكري بجسر الشغور بتاريخ 12 /4 /2012، وفي اليوم التالي تم ترحيلي إلى فرع الأمن العسكري بإدلب.
ويضيف أبو عمر الحمصي: في هذه الفترة كان جيش النظام داخل باباعمرو، ويعيشون حالة من النشوة والانتصار على جثث النساء والأطفال وعندما رأى المحقق هويتي قال لي ( باباعمرو صارت باباعنوج) وأضاف بلهجته: (وقت بتوقعووا بإيدنا يا أهل باباعمرو بيصير آفي آدم منكم) وأدخلوني على منفردة طولها 120 وعرضها 60 سم كان فيها أربعة أشخاص آخرون غيري، وفي اليوم التالي أخرجوني للتحقيق وكنت مكبل اليدين مغمض العينين لا أعرف من أين يأتيني الضرب على وجهي وعلى رأسي، ولم أعترف بشيء في كل يوم يدخلون لكل واحد من المعتقلين رغيف خبز مدهون بقليل من المربى أو ملعقة من اللبن، وكان القمل هو "سيد الموقف" يعشش في ثيابنا، وكان المعتقلون منشغلين طوال النهار بتنظف الثياب و"طق" القمل، وكان هذا القمل خاصاً بالثياب وليس قمل الشعر المعروف، فالجسم كله يتحسس منه ويبقى المصاب به يحك جلده إلى أن ينفر الدم من جسمه وكان دخول التواليت لمرة واحدة الحمام لا غير ويسمح لك بدقيقة واحدة فقط وإذا تأخرت يقوم عنصر المخابرات بكسر الباب والاعتداء عليك داخل الحمام.
150 معتقلا في البالونة!
ويردف المعتقل السابق: بقيت 5 أيام وبعدها تم تحويلي إلى فرع الشرطة العسكرية في حلب لأنه كان هو المسؤول عن سوق المعتقلين إلى الشام وباقي المحافظات الشرقية والشمالية.
ويردف الحمصي "نمت ثلاث ليالي في الشرطة العسكرية في غرفة لا تتسع لعشرين شخص "حشروا " فيها 150 شخصا، والقسم الأعظم من المعتقلين كان واقفاً والقسم الباقي ينام بالدور، يعني ساعتين بساعتين والترحيل يتم في سيارة عبارة عن برادات لحمة مغلقة الشبك مضاعفة أربعة مرات، فالمعتقل يختنق مائة مرة على الطريق قبل أن يصل، وهناك أشخاص أغمي عليهم فعلاً من ضيق النفس وكانوا لا يقومون بترحيل هذه السيارة حتى يكتمل العدد إلى مايقارب خمسين أو ستين وهو مايسمى "جنزير" أي أنهم يقومون بربط جميع المعتقلين بجنزير واحد ويمررونه على الكل، وإذا لم يكتمل الجنزير لا يأخذونك إلى المكان المحول إليه، وقد تبقى شهراً أو شهرين أو سنة سنتين حتى يكتمل الجنزير، وصباح أحد الأيام تم ربطنا بالجنازير ووضعونا في سيارة الجنزير، وصار المعتقلون يتساقطون فوق بعضهم البعض ويتعثرون بالجنزير لأنهم أجبرونا داخل السيارة على المشي من جهة اليمين واللف على اليسار، وكان معنا أشخاص كثيرون أعمارهم تتجاوز 60 عاماً.
ويردف: "بقينا 4 ساعات على الطريق وكانت ترافق سيارة المعتقلين سيارات أمن إلى أن وصلنا إلى اللجنة الرباعية بحمص أو "البالونة" كما تسمى لأن الخط بين حلب وحمص وقاموا بإجبارنا على خلع كل ملابسنا (ربي كما خلقتني) وما بين كفر وصياح وإهانات وضرب ومسبات كان عناصر البالونة يصرخون في وجوهننا (إرهاربين خونة)، وكانوا يقومون بالدعس على رأس المعتقل مهما كان يكون كبيراً أم صغيراً، وبقيت نهار واحداً في البالونة وفي اليوم التالي وضعونا في نفس السيارة التي جئنا فيها من حلب، وعندما وصلنا دمشق قاموا بفرز كل شخص، فتم فرزي إلى الفرع 215 سرية المداهمة التابع للفرع 91 في كفر سوسة، وكان دخولي إلى هذا الفرع بتاريخ 25 /4 2012 وكنت معصوب العينين، ولكنني استطعت عد الدرجات التي نزلتها فكانت 22 درجة تحت الأرض وكالعادة قوبلت مع رفاقي بالشتم وبالضرب بمختلف أنواع الكرابيج من أول درجة إلى أرض المعتقل، وهناك قاموا بصفنا وخلعوا ثيابنا وحلقوا لنا شعرنا على الصفر وطلبوا منا الدخول إلى الحمامات للاغتسال ( لأنو روايحنا كانت بتفطس)، تركونا حتى الصباح في الكريدور حتى بؤمّنوا لنا مكاناً لإقامتنا (الميمونة) لأن الفرع عندما دخلنا إليه كان يضم 1450 معتقلا وهذا الكلام سمعته من أحد المساعدين كان يقول لزميله (وين بدنا نروح بربون صار العدد 1450).
وكان هذا السجن كما يصفه أبو عمر الحمصي عبارة عن قبو، وما يقارب العشرين غرفة على الجانبين الأيمن والأيسر والصدر عبارة عن غرفة كبيرة جيدة التهوية ولكثرة عدد المعتقلين اضطروا أن يهدموا أحد الجدران ليوسعوا المكان ويفتحوا السجن على بهو كبير.
غرفة خشب !
ويستطرد الحمصي في سرد جوانب من ذكريات الاعتقال الأليمة قائلاً:
أخذوني إلى غرفة تسمى "خشب" وهي تضم عادة الذين لم يُحقق معهم بعد وعندما اقتربت من باب الغرفة أحسست بلهب حارق لسع وجهي واعتقدت بداية أنني أقرب من فوهة فرن، ورأيت جميع المعتقلين عرايا إلا من السليب الذي يستر عوراتهم متكدسين فوق بعضهم وتفوح من المكان روائح كريهة تكاد تقتل من يشمها، وكان عرق المعتقلين يسيل على بلاط الغرفة من شدة الحر، ورأيت عشرات الحالات ما بين الاختناق والإغماء والاستفراغ، وبقيت في هذه الغرفة أسبوعاً حتى تم استدعائي للتحقيق في الأعلى وشعرت بالارتياح نوعاً ما "صح بدي آكل قتل بس عم شم هوى نظيف"، وعندما جاء دوري في التحقيق قام المحقق بسحبي من رقبتي مردداً شتائم من العيار الثقيل وكلمات من مثل: " هلا بالخاين"، وظل ممسكاً بجوزة رقبتي حتى أوشك نفسي على الانقطاع وسألني لم أستطع الرد عليه فأشرت بيدي أني لا أعرف قال لي بلهجته: "آبتعرف والله لحتا أحرقك حرق"، وأنزلني ثم ضربني على صدري (حسيت أنو الدنيا صارت تفتل فتل فيني).
وكنت مطمش العينين ومربوط اليدين وبدأ مجموعة من عناصر الفرع بضربي ولم أكن أسمع إلا أصواتاً ثم سقطت على الأرض وبدأ المحقق يضربني بأنبوب عريض من السليكون حتى انفتحت رجلي فتركني قائلاً لي من جديد: "آبدك تعترف"، فقلت له إن التهمة الموجهة ضدي كيدية فأنا كنت رئيساً لقسم الشوؤن الإدرية وكل الضباط كانوا يريدون هذا المنصب ففاجأني المحقق بسؤال: (أيوى يعني أنت مابتحب العرصة عبد الرزاق طلاس) فقلت له لأ، وبدأت بسب طلاس، طبعاً أنا وقعت بأهلي مجزرة استشهد فيها 17 شخصا أثناء اقتحام "باباعمرو" قبل اعتقال وهم أبي وثلاثة أعمام لي وجدي وعمتي وزوجات أعمامي وأولاد عمي الأول 5 والتاني 3 وحفيده صبي صغير لم يتجاوز الـ 10 أشهر، ولم أعلم بهذه المجزرة إلا بعد عشرة أيام من وقوعها وقلت للمحقق مرغماً أن (الإرهابين) هم من قتل أهلي فقال لي (مين عبد الرزاق طلاس العرصة) فقلت نعم هذا الإرهابي قتلهم لأني لم أنشق، كذبت أجل تخليص نفسي وصدّق المحقق، فقال لي: (بتطلع تحكي هل الكلام على تلفزيون الدينا) فقلت له نعم فقال لي (جهز حالك بكرى بتطلع) ولكنني لم أظهر على قناة الدنيا.
للجهنم خليكم تموتوا!
ويضيف ابو عمر الحمصي مستذكراً مشاهد التعذيب والقتل في الفرع 215:
في هذا الفرع شهدت مقتل 18 معتقلاً أمام عيني بسبب الاختناق فقد طلب أحد المعتقلين رغيف خبز لأنه لم يحصل على رغيف فقام السجان بإغلاق النافذة التي هي عبارة عن مربع يدخل منه الهواء لكي يبقى السجناء على قيد الحياة فقام السجان "الحقير" بإغلاق النافذة التي يدخل منها الهواء لمدة تقارب الساعة أو أكثر رغم استغاثة المعتقلين الذين راحوا يصرخون بأعلى أصواتهم (الناس عم تموت افتحوا النافذة)، ولكن لاحياة لمن تنادي بل كان السجان يقول لهم (للجهنم خليكم تموتوا)، وصارالسجناء يضربون على حيطان المهجع وبعدها فتح السجان النافذة فوجد أكثر من 40 سجيناً ملقى على الأرض وبدأ "سخرة السجن" يخرجون المصابين من القاووش ومن أصل 40 أصيبوا بفقدان الوعي مات 18 شخصاً بينهم شقيقان من الرستن على ما أذكر، فتم سحبهم إلى الخارج وضعهم في أكياس سوداء ثم أخذوهم الى جهة مجهولة وكانت الجثث عارية الا من السليب وهذه القصة المؤلمة تكررت في كل فروع الأمن السوري وليس في الفرع 215 فحسب.
وبعد سبعة أيام خرجت من الفرع واعتقد بداية أنني حصلت على الإفراج ولكنهم حولوني إلى القضاء العسكري في القابون، ولازلت أذكر موقفاً كلما استرجعته في ذاكرتي أبكي، فلدى خروجي من هذا الفرع تراكض إلي بعض المعتقلين وأعطوني ارقام تلفونات أهاليهم لأطمئنهم عن أبنائهم كتبتها في ورقة صغيرة، ولكن عناصر المخابرات عثروا عليها معي وتعرضت للتعذيب بشأنها غير أن أكثر ما أزعجني أني لم استطع الاتصال بأهالي المعتقلين.
ثم حولوني على القابون ومن هناك أخذوني إلى إدارة القضاء العسكري، فأحالني القاضي إلى فرع القضاء العسكري في حلب لأن القضاء في سوريا يأخذ بالاختصاص المكاني للجرم، ولأن الطريق كان مغلقاً بين معرة النعمان وخان شخيون، بسبب استيلاء الثوار عليه ركبنا في طائرات شحن (يوشن)، وكان معنا في الطائرة نساء ومنهن امراة من بيت العرعور كانت تجلس بجابني وكانت تهمتها تحريض الطلاب وصار عنصر المخابرات يسيء لها بالكلام البذيء ولم يكتفِ بذلك، بل قام بضربها أكثر من عشرين لكمة على وجهها، وبعد وصولنا إلى حلب تم عرضي على القاضي فسألني (شو بدك تحكي أنتي ناكر مانسب إليك)، فقلت له نعم أنكر ذلك فقال للكاتب كرر المدعي عليه ما جاء في تقرير المخابرات، (طبعا الإنكار هنا لا يفيد فتقرير المخابرات هو الأساس وهو الذي يُحكم بموجبه على المعتقل)، فقام القاضي بإيداعي لصالح النيابة العسكرية إلى حين حضور العسكري المجند الذي بدأت قصتي معه.
فارس الرفاعي - زمان الوصل - خاص
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية