حرب الإخوة الأعداء (النصرة-الدولة): احتضار القاعدة

منذ الإعلان عن تأسيس الجبهة العالمية لقتال اليهود والصليبيين عام 1998، واجه تنظيم القاعدة خلال مسيرته وأجياله متغيرات كبيرة منها ما يرتبط بتغيرات النظام الدولي، وتحول التنظيم بعد هجمات أحداث سبتمبر 2011 إلى هدف يتصدر قائمة الأولويات العسكريّة بالنسبة للولايات المتحدة والغرب عامة، ومنها ما يتعلق بالخلافات الفكريّة ضمن التنظيم ذاته، ولاسيما حول مسألة "مركزية أو لا مركزية التنظيم" ومسألة تقديم قتال ما يعرف بالأوساط الجهادية (العدو البعيد) في إشارة إلى أميركا والغرب، أو قتال (العدو القريب) في إشارة إلى الأنظمة العربية القائمة والتي يعتبرها الفكر الجهادي "أنظمة جاهليّة" عميلة للغرب "الصليبي".
وعلى الرغم من الهزات المختلفة، استطاع التنظيم الاستمرار والبقاء، إذ لم يحقق غزو افغانستان 2001 أهدافه في القضاء على التنظيم وزعيمه أسامه بن لادن. كما أنه استطاع تطوير أساليب جديدة على الصعيد القتاليّ مكنته من التكيف مع الملاحقة العسكرية والأمنية المستمرة.
دشن احتلال العراق عام 2003 نشوء جيل جديد من القاعدة يختلف إلى حد كبير عن الجيل الأول بمعنى تركيزه على قتال العدو البعيد في أرضي العدو القريب. وقد تأثر بعض من أفراد هذا الجيل بطروحات أيمن الظواهري حول إمكانية أن يكون لكل بلد نسخته من القاعدة، وأن تُنشأ المجموعات الجهاديّة المنتشرة في الأصقاع تنظيمها وتختار أميرها الذي يقدم البيعة والولاء للتنظيم الأصل. ضمن فلك الأفكار السابقة نشأت دولة الإسلام في العراق، ونشأت تنظيمات إقليمية أخرى. لكن ما ميز هذا الجيل، هو تركيزه على الجانب الهوياتي في الصراع، بدلا من الإطار العالمي أو المعولم. من هنا ازداد التكفير، وأصبح كل مخالف لهذه التنظيمات ولو حتى في القضايا الصغيرة "عدوا" يُحلُ قتله بتهمه "الردة" والخروج عن الملة والجماعة. تأسيساً على ذلك، واجه تنظيم القاعدة مشكلة كبيرة تمثلت بنفور الشعوب من أساليبه وعملياته التي استهدفت المدنيين في الملاعب، والمقاهي، والمجمعات السكنية. الأمر الذي جعل بن لادن يعتذر في رسالة حول العراق نشرت عام 2007 عن ما أسماه تطرف القاعدة في العراق واستهتارها بالحياة البشرية وقتل المخالفين.
أيًا يكن، فإن جيل القاعدة الذي نشأ بعد حرب العراق أسس لمرحلة جديدة في التنظيم تتسم بـ"اللامركزية النخبوية" بحيث تتمتع الفرع بصلاحيات واسعة، ويقتصر دور الأصل على التوجيه والإرشاد، والتحكيم لحل النزاعات. بالموازاة مع هذا الجيل المتطرف، نشأ جيل يمكن تسميته بـ"الجهاديين الافتراضيين" الذي تبنى نهج القاعدة وأفكارها، وعمد على ترويجها مستفيدا من تقانات الثورة الرقميّة. ويختلف الباحثون في المسائل الجهادية على توصيفه هذا الجيل، فمنهم من يعتبره "الجيل الثالث" من القاعدة، ومن يصفنه على أنه جيل مواز للجيل الثانيّ وهذا أقرب للواقع.
النصرة: الوجه الجديد للقاعدة
تعرضنا في مقال سابق نشر في "زمان الوصل" بعنوان "وقفة متأخرة مع الجولاني.. أيديولوجيا الجهاد: براغماتية الأصل وجنون الفروع" إلى الهزة الفكريّة الذي تعرض لها تنظيم القاعدة بعد انطلاق الربيع العربيّ عام 2011. فالتنظيم لم يكن بمنأى عن هذه التغيرات، وسارع إلى التكيف معها من خلال اعتماد نهج جديد يدعو إلى الانتقال من "النخبوية" إلى "الشعبوية"؛ بمعنى التركيز على النشاط الشعبي الجماهيري، بدلاً من البحث عن مقاتلين ومنتسبين جدد. وفي هذا الإطار برزت ظاهرة "الأنصار" كحركة أنصار الشريعة في تونس والتي لم تكن مسلحة في بدايتها، بل حاولت استثمار مناخ الحرية بعد سقوط الأنظمة الديكتاتورية لتنشر أفكارها بشكل علني بعد أن منعت سابقًا. لكن التطورات في مسار الربيع العربي والانتقال إلى العمل المسلح كما جرى في ليبيا وسوريا أعاد من جديد فكرة "الجهاد" العنفيّ كنهج وأيديولوجية. ومن جديد حاولت القاعدة التكيف مع هذه المستجدات، فنشأت فكرة "النصرة" كتطور مسلح لفكرة "الأنصار" القائمة على العمل الدعوي السلميّ.
مثلت فكرة "النصرة" فلسفة جديدة في القاعدة تعتمد بشكل رئيس على أفكار أبو مصعب السوريّ في كتابه دعوة المقاومة الإسلاميّة، بإنشاء سرايا جهادية تتفق في الهدف والأفكار من دون أن يجمعها تنظيم هرمي تقليدي على غرار الشكل التنظيمي للجيل الأول، والجيل الثانيّ. أما الأساس الفقهي والعقدي للعمل المسلح فهو "دفع الصائل أو صد المعتدي" دون أن يكون هناك اندفاع باتجاه إقامة ما تسميه "الحكومة الشرعية" وإعلان الدولة الإسلاميّة. ويمكن هذه الفروقات بوضوح في البيان التأسيسي لجبهة النصرة 24 كانون الثاني/ يناير 2012.
فالجولاني لم يعلن عن تأسيس إمارة إسلاميّة، ولم يعط البيعة والولاء لأي تنظيم تقليدي سواء أكان إقليميا ممثلاً بدولة العراق الإسلامية التي ساهمت –وبحسب الجولاني– في تأسيس النصرة وأمدتها بالسلاح والمال، أو عالميا كالتنظيم العالمي لقاعدة الجهاد ممثلاً بأميره الظواهريّ. وندعي، أن قيام الجولانيّ بإعلان البيعة والولاء للظواهري والذي حصل في 10 نيسان/ أبريل 2013 كان بمنزلة "المخرج الوحيد" للنصرة أمام محاولة ابتلاعها من قبل أبو بكر البغدادي أمير تنظيم الدولة في العراق والذي أعلن في 9 نيسان/ أبريل 2013 عن دمج تنظيمه، وجبهة النصرة في تنظيم واحد سماه الدولة الإسلامية في العراق والشام.
يمكن القول إن جبهة النصرة في سوريّة خطت لنفسها مسارا يختلف عن التنظيمات الجهادية التقليديّة من خلال تجنب فرض البيعة والولاء على الآخرين، وتجنب تكرار الممارسات الإجراميّة للقاعدة في العراق، وتقيد تطبيق الحدود، والاهتمام بالمجتمعات المحليّة من خلال نشاط إغاثي وإنساني، إضافة إلى ضروراتها وشراستها بقتال النظام. وبناء عليه، لاقت جبهة النصرة قبولاً من غالبية الفصائل المقاتلة على الرغم من وضعها على لائحة الإرهاب الأميركية، ولم يكن هناك اصطدام شعبي واسع معها.
كانت تجربة النصرة بمنزلة عملية "إحياء جديدة" للقاعدة، وساهمت في إنتاج وجه آخر لها يختلف عن قاعدة العراق، ويحظى بقبول مجتمعي نسبي، وبترحيب الفصائل المقاتلة، وبتزكية المنظرين الجهاديين في نفس الوقت.
الدولة: احتضار القاعدة
مما لاشك فيه، أن أحد أسباب قيام "أبو بكر البغدادي" بدمج النصرة وتنظيمه هو خشيته من أن تكون النصرة "النموذج" الجهادي المعترف به من قبل التنظيم العالمي لقاعدة الجهاد في بلاد الشام والعراق، خاصة بعد قيام الظواهري بالتواصل المباشر مع الجولانيّ، والاستغناء عن البغدادي كوسيط فيما بينهما.
لقد نظر البغدادي لجبهة النصرة على أنها "ملك شخصي" له، لا يجوز أن تخرج عن سيطرته ونفوذه خاصة وأنه ينظر إلى نفسه باعتباره "أمير المؤمنين" والذي تؤخذ له البيعة. انطلاقًا من ذلك، حرص البغدادي في خطاب إعلان الدولة على "تصغير" الجولاني والاستهزاء به بالقول: "ما الجولاني إلا جند من جنودنا انتدبناه إلى الشام وأرسلنا معه الرجال".
لكن الجولاني، والذي يعتقد أن لبلاد الشام خصوصية تجعل من تجربة العراق تجربة منفرة وتضر بـ"الجهاد"، قاوم مخطط البغدادي باللجوء إلى التنظيم الأصل (القاعدة) ومبايعة زعيمه الظواهريّ ليمهد الطريق لـ"انقلاب" نادر من نوعه في التيار السلفي الجهادي.
بدأ الانقلاب في شهر حزيران/يونيو 2013 عندما أصدر الظواهريّ بيانا حول الخلاف بين النصرة والدولة، أعلن فيه فض الدمج، ومنح كلاً من البغدادي ولاية مكانية على العراق، والجولاني ولايّة مكانية على سورية، وتسمية أبو خالد السوري القيادي في تنظيم القاعدة حكمًا بين الطرفيّن.
رحبت النصرة بإعلان الظواهري، واعتبرته "حماية" شرعيّة لها. لكن رد فعل الدولة جاء مختلفًا. ففي كلمة صوتيّة مسجلة، أعلن أبو بكر البغدادي رفضه قرار الظواهري، واعتبره قرارا خاطئا وعليه مؤاخذات شرعيّة. ونوه البغدادي إلى أن "دولة" مهد لها أبو مصعب الزروقاوي وأبو حمزة المهاجر -قادة تنظيم القاعدة العراق- هي دولة باقيّة ولا تزول. وبمجرد هذا الإعلان انقسم منظرو التيار الجهادي بين مؤيد للنصرة، كأبي بصير الطرطوسي والسباعي، وأبو محمد المقدسي، وأبو قتادة الفلسطيني وبين مؤيد ومتضامن مع الدولة مثل: أبو سعد العاملي، وأبو الحسن الأزدي، وأبو همام بكر الأثري، وأبو سفيان السلمي تركي البنعلي، وأبو المنذر الشنقيطي، وأبو محمد الأزدي، وأبو يوسف البشير وغيرهم.
كان خروج البغدادي عن رأي الظواهري، خروجا للفرع عن الأصل، تصنيفًا جديدًا للأعلى والأدنى، للأمير والمبايع. كان خروج البغدادي نكسة لتنظيم القاعدة، الذي كان يعلل النفس بوجود الفروع ونشاطها. وقد أدرك الظواهريّ حجم قوته فامتنع حتى الآن عن الإدلاء بأي تعليق على ما يجري بين الإخوة الأعداء.
ولعل هذا الموقف الرخو، هو ما دفع القيادي في تنظيم القاعدة أبو خالد السوري إلى توجيه انتقاد لاذع للظواهريّ وحمّله مسؤولية "ضياع الجهاد في الشام" لأنه لم يتخذ موقفا واضحا من ممارسات تنظيم الدولة، والمواجهات الأخيرة.
بالمحصلة وبعد الاستعراض السابق يمكن القول إن التنظيم العالمي لقاعدة الجهاد يعاني أسوأ أزمة منذ تأسيسه وحتى الآن، وهو معرض بشكل جدي للاندثار والتلاشي. فقد سنّ تنظيم الدولة سنّة سيئة بالنسبة للظواهري وللقاعدة وتتمثل في عدم مبالاة الفرع بمركزية الأصل. في المقابل نرى أن النصرة وفي ضوء عجز القاعدة عن توفير الحماية لها أمام تنظيم الدولة، فإنها ستراجع خياراتها فيما يتعلق بالبيعة والولاء للظواهري وتبحث عن بدائل من ضمنها البحث عن ذات وطنية في سورية.
باحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات - من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية