انجلت الهدنة التي دخلها حي برزة الدمشقي بعد أشهر طوال من الاشتباكات والقصف المدمر.. انجلت عن مشاهد كثيرة جدا، أصغر تفاصيلها "قصة كاملة" بحد ذاتها.. الجدران تروي، والأبواب تحكي، والأزقة تتكلم.. كلها تتحدث بصور "عابرة للقارات" لاتحتاج ترجمانا ولا تتطلب تفسيرا.
لكن من بين من لايفهمه إلا السوريون أنفسهم، ما باحت به جدران منازل "برزاوية"، وهي "تتقيؤ" كلام شبيح نموذجي، و"مسطرة" يمكن أن تقاس عليها كل "أخلاقهم!!"، ولعل اسم الشبيح "أبو بطحة" يمكن أن يعطي فكرة سريعة عن بعض "إفرازاته"، التي "ناءت" بها حيطان منازل كانت تسكنها عائلات، للشرف والأخلاق والدين فيها وزنه، قبل أن ينتهك حرمتها "أبو بطحة" ورفاقه.
فهنا على أحد الجدران، يكتب "أبو بطحة": "الأسد أو منكمل حرق البلد، وخاصة برزة البلد"، وهناك ينقش ما سماء استهزاء بقانون نظامه "أمرا إداريا" أعطاه الرقم 1952، معددا فيه قواعد و"ضوابط" سرقة بيوت المهجرين ونهبها، وهي: ممنوع النتحيس (أي نهب النحاس وفكه من أي مادة يحتويها، ولو كانت سلك كهرباء!)، ممنوع فك القازانات (سخانات ماء تعمل على المازوت)، ممنوع التعفيش (نهب الأثاث)، وآخر تلك "الضوابط": ممنوع نقل الأغراض التي يزيد وزنها عن 2 طن!، وينهي "أبو بطحة" قراره بالعبارة المعتادة في قوانين النظام "تحت طائلة الغرامة والمسؤولية والمصادرة".
وعلى جدار آخر، يفصح "أبو بطحة" عن مكنونات نفس استمرأت السخرية بالدين، وتشويه الآيات والأحاديث، ليكتب: "أيها الناس اتركوا شرب الخمر ورفع الكاس، اتركوا حاجاتكم من أغراض وأشياء ولباس، اتركوا مخالطة الخلق ومصاحبة الناس اتركوا ملذات الدنيا من ذهب وفضة وألماس، لكن تسارعوا.. كونوا يدا واحدة.. جاهدوا.. قاتلوا دمروا كل من يقف بطريقكم، لتبقى راية الأسد مرفوعة فوق كل أساس"، ويختم كل ذلك بعبارة "أخرجه أبو بطحة الأسدي".
وكأي "سوبر شبيح" يظن نفسه متعدد المواهب، فهو صنديد، وقاتل شرس، ولكنه بنفس الوقت "حبّيب" وعاشق ويحسن "الاستشعار"، أي كتابة ما يظنه شعرا.. يلقي "أبو بطحة" بكلكل كلامه الثقيل على أحد الجدارن، ناظما بيتين من العيار الذي لايحسن كتابته إلا من تخرج في جيش الأسد: "شفت ضو نازل من السما/ فكرتو بريق عيون حبيبتي، طلعت قذيفة مدفعية لعمى/ قبعت الركيض وينك ياسيدي)، وغني عن الشرح المنطقة التي يتحدر منها من يستخدمون عبارة "قبعت الركيض" للكناية عن سرعة فرارهم!
لكن "أبو بطحة" يثوب إلى "رشده" ويرجع إلى "قواعده" حين يختار واحدا من أكبر الجدران ليخط عليه بحروف ضخمة، الشعار التاريخي المأثور عن الحسين بن علي، والذي طالما انتهكه القتلة ولوثوه وهم يرددونه على ألسنتهم "إن القتل لنا عادة، وكرامتنا من الله الشهادة"، وسرعان ما يربطه بالشعار الحاضر الذي اختاره الشبيحة لهم ديدنا ودينا: "نموت ليحيا الأسد".



إيثار عبدالحق - زمان الوصل - خاص
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية