عن أي إسلام يتحدثون؟
من الضروري عند الحديث عن الإسلام أن يكون هناك تمييز وفصل بين ثلاثة مستويات مختلفة لها علاقة بالدين الإسلامي –على الرغم من كونها مترابطة أيضاً- وهي المستوى النظري (النص القرآني والحديث النبوي) والمستوى التاريخي (التجربة الإسلامية في التاريخ: تاريخ الصحابة والأمويين والعباسيين والمرحلة العثمانية....) والمستوى المعاصر أو الواقعي.
بالتالي، لا بدّ هنا من تقرير حقيقة مهمة من حيث المبدأ: إن أي حديث تجريدي عن الإسلام لا يكون مفيدا ًولا بدّ من ربطه بمدرسة أو مذهب أو شخص أو فرقة معينة، أي لا بدّ من الحديث عن تفسير وفهم محدّدين للنصوص التي تمثل مصادر الإسلام، وهي نصوص القرآن والسنة، لأن "القرآن لا ينطق وإنما ينطق عنه الرجال" كما يقول الإمام علي بن أبي طالب. وأيضاً لأنه ليس هناك من نص مهما كان مقدساً له معنى ذاتي لازم ونهائي، فالمعاني تستخلص بعمليات معقدة يقوم بها عقل ما، محكوم سلفاً بعلاقات الزمان والمكان بكل ما يعتمل فيها من مصالح وعادات وتقاليد ومعارف سائدة. فالإسلام دوماً هو إسلام المتكلم، يتغير بتغير الذات المتكلمة، وهو ما يفسر التباين الواسع في قراءة النصوص المقدسة والسرديات التاريخية وتأويلاتها.
هذا يعني أن المستوى المعاصر أو الواقعي يكتسب اليوم أهمية أكبر من المستويين الأول والثاني عند تفكير هذا الفرد أو تلك الجهة ببناء دولة إسلامية، أو عند الحديث عن بناء الدولة والمسألة الدينية، وبالتالي من المنطقي القيام بمعرفة هذا المستوى الواقعي المعاصر بدقة وتقييمه وتحديد موقف إزاءه. إذ لا فائدة ترتجى في سياق تبرير الدعوة إلى إقامة دولة إسلامية أن يلجأ المرء إلى استحضار النصوص الدينية أو التاريخ الإسلامي، لأن هذين المستويين يحتويان على شواهد عديدة تدعم مقولة الفصل بين الدولة والدين، مثلما يحتويان على العكس.
لذلك ينبغي على كل من يرفع شعار "إقامة الدولة الإسلامية" أو شعار "دولة الخلافة" أن ينطلق من تحديد النماذج السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية التي تشكل اليوم تجسيدات واقعية للإسلام ومناقشتها وتقييمها وتبيان إخفاقاتها وإيجابياتها والاختيار بينها، والتي يمكن تحديدها بسبعة نماذج:
1- إسلام الدولة: هناك ثلاثة نماذج من إسلام الدولة أصبحت تشكل منطلقاً للتجارب الحديثة من الإسلام السياسي أو إسلام الدولة أو التجارب الطامحة لبناء "دولة الإسلام"، وهذه التجارب هي: السعودية وإيران وتركيا. باعتقادي لا يعتد بالتجربتين السعودية والإيرانية لتكونا أنموذجاً يحتذى، فكلتاهما دولتان مستبدتان لم تنتجا نظماً حديثة ومتطورة. أما التجربة التركية فما زالت حديثة ولم تتوطد أركانها بعد، وإن كانت التجربة الأفضل حتى الآن، كونها جاءت متناغمة مع القيم الحديثة والديمقراطية، إلى جانب محافظتها على حيادية أجهزة الدولة وعدم فرض تصوراتها على المجتمع التركي.
2- إسلام رجال الدين: وهو إسلام تقليدي محافظ وظيفي، كان في الغالب إسلاماً تبريرياً للحكام المستبدين، وشكّل في أحايين كثيرة غطاء شرعياً للاستبداد.
3- إسلام الحزب السياسي: وهناك عدة نماذج: إسلام حزب الله، وإسلام حركة حماس، وإسلام حركة الإخوان المسلمين. في التجربة الواقعية كان إسلام حزب الله إسلاماً مذهبياً بوضوح، وإسلام حركة حماس متشدداً بالمقارنة مع جذورها الأخوانية، ولذلك شكلت هذه الأنماط من الإسلام إعاقة واضحة أمام فكرة الدولة بحد ذاتها، وسداً منيعاً أمام القيم الديمقراطية الحديثة، على الرغم من أنهما –من حيث الوظيفة- يشكلان بقايا حركة التحرر الوطني في الستينيات والسبعينيات، وإن كان بشكلها الأكثر بؤساً، وعلى الرغم من دخولهما في لعبة الانتخابات. أما حركة الإخوان المسلمين التي توصف بالاعتدال الإسلامي، فيختلف أداؤها من بلد إلى آخر ومن فترة لأخرى، فالبراغماتية السياسية سمة واضحة، بما يجعل نهجها غير واضح أو مضمون دائماً، على الرغم من أنها كانت في فترات تاريخية سابقة متوافقة مع الآليات الديمقراطية.
4- إسلام الجهاد: وهو إسلام سلفي جهادي تكفيري، تجسيده الأوضح حركة طالبان ومنظمة القاعدة بكافة تشكيلاتها، وهو على علاقة عدائية مع العالم والعصر.
5- إسلام المفكرين الإسلاميين: وهو إسلام تنويري منفتح، لكن قاعدته ضيقة وتأثيره ما زال محدوداً.
6- إسلام العمل: وهو إسلام الطبقة الوسطى ورجال الأعمال والتجارة، وهو عموماً إسلام محافظ اجتماعياً لكنه منفتح في المستويين الاقتصادي والسياسي، وأقرب لأن يكون إسلاماً ليبرالياً.
7- إسلام شعبي: وهو إسلام بسيط ومتسامح، ولا تعنيه التعقيدات الأيديولوجية.
إسلام العمل والإسلام الشعبي –وهما القاعدة الأعرض واقعياً للإسلام- يتوافقان في الغالب مع فكرة بناء الدولة الحديثة والقيم والمبادئ الديمقراطية.
هذا التصنيف السريع غير دقيق بالتأكيد، ويحتاج توصيف كل منها إلى تفاصيل كثيرة، لكنه محاولة لتحريض من يرفعون "الإسلام" شعاراً وهوية للدولة المبتغاة أن يحدِّدوا في حديثهم الإسلام الذي يتحدثون عنه، كي يصبح للحديث معنى، وكي ننتقل من ساحة الشعارات المتلاطمة إلى ساحة التفكير.
لكن بشكل عام نقول أن أي عملية يجري فيها رسم صورة الدولة على شاكلة أي حزب أو دين أو أيديولوجية أو فرد ستؤدي إلى إلغاء العنصر الرئيسي في بناء الدولة، أي طابعها العام، لتتحول بالتالي إلى مجرد سلطة قمعية. بالطبع، ليس هناك مشكلة في أن يؤلف الإسلاميون حكومة في المستقبل، وفق مبدأ الانتخاب الحر وتداول السلطة سلماً والالتزام بالدستور والقانون. أما الجماعات الإسلامية التي تسعى إلى أسلمة الدولة والهيمنة عليها فإنها تفتح بالضرورة مجالاً واسعاً في مجتمعاتها لحروب أهلية مستمرة، ليس فحسب مع غير المسلمين بل مع أكثرية المسلمين الذين لا يشبهونها ولا يلتزمون بتأويلها وتفاسيرها وآرائها في الإسلام.
الدولة القابلة للحياة والمتوافقة مع القيم الديمقراطية والتي تحافظ على السلم المجتمعي هي الدولة المحايدة إزاء جميع الأديان والمذاهب والمعتقدات والأيديولوجيات، وعندها فحسب يمكن أن ترقى الدولة لتكون مؤسسة سياسية عامة فوق الجميع، أي فوق الأفراد والأحزاب والطبقات والأديان والمذاهب والأيديولوجيات، وفوق الرؤساء والملوك والقادة.
من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية