إذا كان ثمة صواب في القول: أن المحن والكوارث التي تواجه الشعوب، لا تؤدي غالباً إلى إبادة وجودها التاريخي، طالما أن الناجين منها يتمسكون بذاكرة جماعية تمكنهم من مواصلة الحياة، فلا مناص من القول: أن التجارب الإنسانية التي راهنت على تجاوز المخاطر الوجودية، كشفت بدورها عن هواجس ومخاوف كبرى، بسبب عمليات اقتلاع الذاكرة الجمعية، من خلال تفكيك وتذويب حيوانها وحواملها الجيلية، بوسائل قهرية وعنفيه متعددة.
يرقى ما يواجه الفلسطينيون في سوريا، وفي مخيم اليرموك ذات الدلالة الأوضح على وجودهم المهدد فعلياً، إلى مصاف الكارثة التي باتت تفتك بواقعهم المادي والمعنوي، ولذلك يغدو مشروعاً وملحاً توقع أسوأ التحديات المصيرية، التي تنتصب أمامهم. والتي تدفع إليها وقائع مأساوية صارخة، لا أدل عليها من جريمة الحصار الخانق والمتواصل على مخيم اليرموك، منذ ما يزيد عن ستة أشهر. ودون أن تحجب هذه الجريمة التي تدخل في نطاق جرائم الإبادة الجماعية، ضروب متسقة من الانتهاكات والتعديات، التي طالت أغلب المخيمات الفلسطينية في سوريا، حتى طغت مشاهد الحصار والموت والاعتقال والنزوح والدمار، على تاريخ مديد من مآسي النكبة الفلسطينية الأولى. ليس فقط بسبب ضراوة المعاناة التي طبعت حياة الفلسطينيين على إيقاع المأساة السورية الأعم، فثمة حقائق ومآلات كشفت ما هو أبعد من هشاشة واقع اللجوء، الذي خبِرَ الفلسطينيون تجاربه المؤلمة في الدول العربية التي تواجدوا فيها. ومن أعتى هذه الحقائق التي أظهرتها التجربة السورية في فصلها الدموي، تخلع الرابطة الأخلاقية والوجدانية بين مكونات الشعب الفلسطيني، التي حالت كل الأزمات الداخلية الفلسطينية في مراحل تاريخية سابقة النيل منها أو إضعافها، وبروز مفارقات حادة بين الأوساط الفلسطينية في مستويات تفاعلها مع الكارثة التي حلت بفلسطينيي سوريا، والتي عبرت بصورة جلية عن شعوب فلسطينية، تفتقد إلى وعاء هوياتي يجمع شتاتها المكاني، ويلملم جراحها وأحلامها في بوتقة الانصهار الوطني. وإذ يعبر فلسطينيو سوريا عن هذه الحقيقة الصادمة بالكثير من السخط والغضب، على تدني أشكال التعاطف والتضامن مع محنتهم الكبرى، التي غيرت الكثير من الثوابت والمعتقدات التي ميزت انتمائهم الراسخ إلى الكُل الفلسطيني، فإن مواقف القيادات الفلسطينية والنخب السياسية والثقافية الملتصقة بها، أظهرت في تعاملها مع مأساة اللاجئين في سوريا مستوى من الانحطاط السياسي والأخلاقي لدى القابضين على القرار الفلسطيني. المتأرجحون بين الصمت والتواطؤ على الجرائم التي تواجه أبناء المخيمات، أو المشاركون عملياً في وقوعها، حتى كادت الفروق تتلاشى بين أدوات النظام الفلسطينية التي تساهم في مقتلة الجوع في مخيم اليرموك، ومواقف قادة المنظمة والسلطة التي تغطي على هوية أرباب الحصار الحقيقيين. طالما أصبح كلا ( المقاومون والمساومون ) وبعد تاريخ من الصراع والتخوين بينهما، متوافقين على أفغنة هوية المخيم ، ومتصالحين على مكافحة ( حاضنته الإرهابية ).
بمعنى أشد إيلاماً، كان اللاجئون في المحن والمآسي التي عايشوها على يد الأنظمة العربية من قبل، يجدون في منظمة التحرير الفلسطينية المرجعية التي يحتمون بها، ويحتكمون إلي ضميرها الوطني، فكانت السند الذي يتكئون عليه ويَعبُرون من خلاله إلى بر الأمان. بيدَ أن تحولات الزمن الفلسطيني أنتجت طبقة سياسية منفصلة عن واقع شعبها، ومحكومة بحساباتها السلطوية وامتيازاتها الشخصية، وقد ساهمت بدورها في تقطيع أوصال الهوية الفلسطينية، وتفكيك أواصر مكوناتها الوطنية والمجتمعية.
فضلاً عن ذلك وفي ضوء استمرار التداعيات المروعة للمشهد السوري، تتعدد مظاهر الكارثة المركبة التي حلت بالفلسطينيين، وعلى وقعها تتغير الكثير من معالم الوجود الفلسطيني في سوريا. بعد أن أحدث الدمار المتواصل تشوهاً كبيراً في ملامح المخيمات، وذاكرتها الوطنية المروية والمتوارثة، سواء تلك التي تحولت بعد أن نزح عنها ساكنيها، إلى أمكنة مقفرة خالية من نبض الحياة، أو تلك التي يعيش أهلها على هاجس القصف والنزوح، والخوف من المجهول. فيما يصارع مخيم اليرموك أكبر المخيمات في سوريا، الموت الزاحف تحت أحزمة القصف والحصار والجوع الفتاك.
مع كل قذيفة وصاروخ وبرميل متفجر، يستهدف هذا المخيم أو ذاك، تندثر تضاريس الأمكنة الحميمة خلف ركام البيوت والساحات المدمرة، وتغص الجدران المتبقية بصور الشهداء ممن عاشوا على حلم العودة إلى فلسطين، قبل أن تقتلهم شعارات المقاومة والممانعة برصاصها الحي، وقبل أن يداهمهم الشعور بالخذلان، من ممارسات انتهكت خصوصية المخيم، وروحه المشبوبة باسم الثورة وتحت راياتها المتعددة. ولا يتوقف جحيم الكارثة من إلقاء حممه وأسئلته اليومية الحارقة، عن مصير هذه الجماعة الفلسطينية التي تتناهبها مشاعر الخيبة و الخذلان والضياع، والتي تفقد يقينها الوطني والعروبي والإنساني، مع غياب كل الإجابات والمساعي والحلول القادرة على حمايتها، وإيقاف مسلسل الاستنزاف والتهجير والتشظي، الذي رمى بنصف شهودها إلى مجاهل الأرض، وأبقى نصفها الآخر شهود قيد الموت والتصفية.
وفي حين يستحضر الموت الراعف في مخيم اليرموك، بقايا الذاكرة الفلسطينية المثخنة بالجراح والمجازر، لا يكف بملحمة صموده وبقائه، عن نزع كل الأقنعة، ودحض كل الأكاذيب، وفضح خيوط المؤامرة لتصفية قضية اللاجئين. التي يعلم المخططون والمنفذون لها، أن لا خيار لتمريرها وإنفاذ حلقاتها، إلا باغتيال مخيم اليرموك جسداً ومعنى، بوصفه الشاهد الأكبرعلى تواريخ المخيمات الفلسطينية، وحارس أوجاعها، والمتراس الأخير في الدفاع عن هوية اللاجئين، وذاكرة الشتات الفلسطيني. ولذلك فإن إنقاذ مخيم اليرموك، هو الصرخة الأخيرة لإنقاذ الرواية الفلسطينية الحية ، من الاختزال والتصفية والنسيان.
أيمن فهمي أبو هاشم
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية