حمص التي لبست ثوباً أحمر ونزفت دمعها دماً ودعت يوم أمس مؤرخها الكبير نعيم سليم الزهراوي الذي رحل عن عمر قارب التسعين وترك وراءه إرثاً ثقافياً غنياً تمثل في عشرة كتب رصدت الحياة الاجتماعية والعمرانية لمدينة حمص عبر مئات السنين حيث أمضى أكثر من عقدين من الزمن في الاهتمام بالوثائق الاجتماعية والشرعية، وتصنيفها وتبويبها ودراستها حتى تجمّع لديه الآلاف منها، وشكّلت هذه الوثائق ركيزة أساسية لتأليفه موسوعة عن تاريخ حمص في الحقبة الزمنية الواقعة ما بين 1840 –1918 أي حتى خروج العثمانيين من بلاد الشام، وتعتبر هذه الموسوعة بحسب الباحثين الأولى من نوعها في الوطن العربي لأنها تعتمد على الوثيقة، وتوظفها توظيفاً مدروساً بهدف الوصول إلى قاعدة ومرجع في دراسة الأصول والجذور ومشجرات الفروع في مجال الأنساب والتقاليد والعادات والمفاهيم العامة والخاصة.
وكان اهتمام المؤرخ الراحل بالوثائق الشرعية وغير الشرعية نابعاً من دراسته في بيروت في الجامعة اليسوعية أواخر الأربعينات من القرن الماضي كما ذكر لي في لقاء أجريته معه قبل سنوات وأضاف: "لا أزال أذكر أن الأستاذ فؤاد أفرام البستاني أستاذ الأدب العربي في الجامعة آنذاك طلب مني تحضير دراسة عليا للدبلوم حول الكتب التاريخية الأدبية حصراً"، وكان لدي في منزل والدي وجدي "نقيب الأشراف آنذاك" مخطوطات عدة – نُهب الكثير منها أو أُتلف في بئر الدار بسبب مداهمات جنود الاحتلال العثماني وكانت هذه المخطوطات –كما قال- عبارة عن وقفيات لآل الزهراوي، وعندما تم شنق الشهيد المفكر عبد الحميد الزهراوي الذي تربطني به صلة قرابة عام 1916 داهمت السلطات التركية منازل آل الزهرواي جميعها وأخذت أكثر المحتويات الثمينة، ومنها المخطوطات والنفائس والأثاث المنزلي الثمين، ولم يكتفوا بهذا بل أخذوا والد الشهيد الزهراوي شاكر الذي كان قد بلغ المائة عام من عمره مع حفيدتيه الوحيدتين الصغيرتين آنذاك، ويروي الباحث الزهراوي في اللقاء المذكور: "أن بعض الوثائق المهمة بقيت في بيت خاله" عبد الهادي الزهراوي" الذي احتفظ بالكثير من هذه المخطوطات في مكان آمن، وحينما تجددت المداهمات من جنود الاحتلال الفرنسي لم يستطيعوا الوصول إليها رغم أنهم تمكنوا من أخذ جميع الوثائق الموجودة في منازل آل الزهرواي، وبعد وفاة خالي الذي كان يعمل خبيراً لدى المحاكم في مدينة حمص ودائرة الأوقاف والدوائر العقارية عام 1974 آلت إلي كل المخطوطات والوثائق التي كانت بحوزته.
أكثر من عشرة آلاف وثيقة !
ذكر المؤرخ الراحل "نعيم الزهراوي" في لقائي معه أن بحوزته أكثر من عشرة آلاف وثيقة مكتوبة بخط اليد، منها ما هو ممهور، ومنها ما هو غير ممهور – أي مسجلة لدى كاتب العدل _ وعليها تاريخ اليوم والشهر والسنة والتوقيع إما بالإبهام أو الخاتم مع أسماء الشهود، وتتنوع هذه الوثائق بين البيع والوصاية والشراكة وتثبيت وثائق واتفاقيات وقضايا الهبة والإرث والمال والوصية وغيرها، مضيفاً "إن هذه الوثائق تعطي صورة وافية عن الحياة التي كان يعيشها الناس في مختلف مراحلهم. ومنها وثائق صادرة عن السلاطين العثمانيين منذ عام 1516 ميلادي عندما اجتاحت الجيوش العثمانية البلاد العربية، وتتعلق بعض الوثائق بتعيين الأئمة والخطباء والأمكنة المعينين فيها ورواتبهم، وهي مكتوبة باللغة التركية والأحرف العربية والفارسية. وثمة وثائق للمحكمة الشرعية في حمص تتضمن قرارات المحكمة في المناكحات والمخالعات والمبايعات وحصر تركات المتوفين والحكم في المنازعات والخلافات وغيرها.
حمص دراسة وثائقية
رصد المؤرخ الزهراوي من خلال الوثائق والمخطوطات التي في حوزته أو تلك الموجودة لدى أصحابها يوميات الناس وأساليب عيشهم وطرائق تفكيرهم في عشرة مجلدات، وتناول الجزء الأول من كتابه (حمص دراسة وثائقية) أصل مدينة حمص ونشأتها ووضعها قبل عام 1840 عمرانياً واجتماعياً وكل ما يتعلق بالعادات والتراث، وقد أنجز هذا الجزء بالاشتراك مع الباحث الراحل محمود عمر السباعي، أما الأجزاء التسعة الأخرى التي أنجزها بمفرده، فتضمنت أماكن العبادة والحياة الاقتصادية العامة والعلاقات بين مالكي الأرض والعاملين بها وذلك حتى نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1918 وتناول في أجزاء لاحقة من هذه الموسوعة جذور ريف حمص تراثياً وأثرياً منذ التكوين وحتى نهاية السفربرلك 1337 هـ 1918م، وهو دراسة وثائقية للتركيب الديموغرافي لكل منطقة ودراسة الأحساب والأنساب القديمة، وكذلك الكتاتيب وكان لديه العديد من الكتب تحت الطبع قبل اندلاع الثورة السورية ومنها (الصحافة والجمعيات) و(الغناء والشعراء) و(الجمعيات والحركات السياسية في حمص).
ويُذكر أن الباحث نعيم سليم الزهراوي من مواليد حمص 1927 يحمل شهادة عليا في تاريخ الأدب العربي من الجامعة اليسوعية ببيروت 1952، وشهادة عليا في الحقوق من الجامعة اللبنانية عام 1956 ومنذ قيام الثورة السورية ظل معتكفاً صامتاً وهو يرى حمص المدينة التي أحبها وأخلص لها تتحول الى أطلال باكية حتى وافاه الأجل.
فارس الرفاعي - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية