هل الإنسان مُخيَّر أو مُسَيَّر؟
كثيرا ما يتبدل الناس الرأي في هذا الموضوع، قائلا بعضهم بأن مخير، مُصِّراً آخرون على أنه مُسيَّر، ولعل الإعتقاد الديني يساهم في ترجيح أحد الرأيين عند كلًّ منهم. فالمتَديّن يميل إلى مسألة التسيير، وغير المتدين يميل إلى التخيير. وأعتقادي أن الإنسان مُسيَّر في كل شيءٍ، ومنذ ولادته وحتى مماته، فيما عدا سلوك الإنسان في مسأله ما يُمكنه الإختيار الإرادي في ما يجب فعله وما لا يجب فعله، وهو ما نُطلق عليه دينياً تعبير الحلال والحرام (على إطلاقها وبما يدخل فيها) فهو فيهما مُخيّر. .................
والحلال والحرام ليس هو مجرد القيام بالعبادات، وعدم تناول الخمر وارتكاب الزنا والقمار والمحرّمات الفيزيائية المعروفة الأخرى، والذي لا يتحدث أغلب رجال الدين إلا عنها (للأسف). وإنما يمتد إلى سلوك الإنسان في مسائل عديدة جداً، تشمل جميع سلوكيات الإنسان في حياته، وضمن مجتمعه، فمثلا، ألا تدخل ممارسة الإنسان للصدق أو الكذب في المسائل المُخيرة؟ الجواب نعم بالطبع، فلا يُمكن لأحد أن يدّعي أنه يكذب فوق إرادته. ولنتوسع قليلاً فهل يمتد الأمر إلى رضاء الإنسان وسكوته عن ظلم - هو بالطبع فعل مرفوض أخلاقياً - يرتكبه إنسان آخر أو سلطة تجاهه شخصيا، أو تجاه مجتمعه عامة هو أمر اختياري أو هو مُسيّر به؟ وبمعنى أوضح هل سكوت الفرد بصفته الفردية أو كونه جزء من المجتمع، على ظلم واستبداد وتسلط فاسدٍ مٌتمكنٍ يسرق الدولة والشعب هو حلال أو حرام أو هو إرادي أو مُقدّر؟ إن هذا التساؤل يمتد بالضرورة إلى مُجمل علاقات الناس ببعضها، وتعاملهم مع ظروف الحياة، وما يرتبط فيها. .................
وهناك كثير من آيات القرآن الكريم التي تُعالج هذه المسألة والتي تفرض على الإنسان سلوكا معيّنا جعله الله محل اختيار وامتحان للإنسان. ولكي لا أُطيل سأذكر آيات في موضعين فقط من عشرات تحدد بعض جوانب الحرام الإختيارية التي لا يراها الناس ولاينتبهون بها، رغم أنها من الخيارات التي تحدد مسارات أساسية في المجتمع، الموقع الأول لذلك هو في قوله تعالى: ::::::::::::
{{{ وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ (113) هود}}}}.
هذا أمر إلهي صريح بعدم الركون للظالمين، والركون يشمل القبول والسكوت والتعامل الإيجابي او السلبي،
والموقف الفاعل أو غير المبالي والمتهرب من أو مع الظالم. إن الآية تُشير إلى أن الله، يدخله في مسألة "الحرام والحلال" أي في مسألة الإختيار، وأن الإنسان مُخيّر في مسألة الركون، أو القيام بعدم الركون. .................
ومثال آخر عن الآيات الأخرى المتعلقة بالمسألة : ::::::::::::
{{{ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ (39) الشورى } }}}
نفهم من الآيات المذكورة - ومن آيات أُخرى كثيرة - إن الله قد ذَكرَ أمورا وحدّد لها سلوكيات اختيارية، وأنها محل المحاسبة، نستخلص منها: أنه يدخل في الإختيار المحرّم 1. السكوت عن فرض الدكتاتورية المخالفة للشورى، أو عن الشورى الزائفة التي تفرضها سلطة ظالمة، وكذلك اختيار التعامل معها. 2. الإختيار بين السكوت، أو الإنتصارالذي يعني رفض ومقاومة الظلم، أو السكوت عنه "ما دخلني، فخّار يكسّر بعضه". ومن جهة مُقابلة يدخل في البغي ارتكاب السلطة والحكومة لكلَّ ما يقود إلى غض النظر عن ارتكابات الظلم والفساد، وكل ما يتسبب لأذى الناس في معيشتهم كفرض أنظمة وتشريعات وقرارات سلطوية تقود إلى اغتصاب حقوق الناس، ومثاله الأمر الذي قامت به الحكومة غير الرشيدة، خلال سنوات وخلقت بسببه كوارث معيشية مُستمرّة على أكثرية الشعب، والذي كان في قيامها بتخفيض قيمة العملة السورية بنسبة زادت عن 50% مما تسبب بالتالي بالغلاء الحّاد الحالي، وهذا بغي وأذى كبير لجميع الناس. ويقوم الإختيار فيه للبشر بنوعية تعاملهم معه، وذلك إمّا بالسكوت المرفوض أخلاقياً وشرعياً كما تنصُّ الآية الكريمة، أو بالإنتصار الواجب عليهم لمعالجة المسألة واضطرار ومنع الظالم من التمادي في الظلم والأذى. ..................
إن المسألة لا تنحصر بالأمثلة المذكورة فقط، وإنما تتعداها إلى كثيرٍ مما يسبب معاناة الناس في كلِّ زمان، وهو ما علينا الإختيار بشأنه في زماننا هذا، لأننا مسؤولون بالذات عن ما هو خيار لنا في حياتنا بالذات. ................
نصل إلى نتيجة عادلة وواقعية هي أن الإنسان مُسيَّر فيما لا إرادة اختيار له به، وهو مُخيَّر في جميع ما هو داخل في إرادته. وأن الإختيار يشمل سلوك الإنسان ويمتد إلى ما يتعلق بذاته وبما يتعلق بمجتمعه.
بكل احترام /
المهندس سعد الله جبري
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية