أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

علماني - اسلامي

هناك من وصفني بمناسبة رأس السنة بأنني (عسلامي: يقصد علماني -إسلامي) وهو تعبير أقبله، لكنه يستوجب مني شرحا: كيف ولماذا؟ وهذا حق لكل من يعنيه الموضوع..

بداية لم أكن في يوم علمانيا، بمعنى فصل الدين عن الدولة أو حتى عن السياسة، لأن ذلك يعني فصل السياسة عن الثقافة التي محورها الدين، وفصل السياسة عن منبع القيم الذي هو الدين أيضا... لكنني كنت ممن يتخوفون من المزج بين سلطة الدين التي أداتها الضمير والرقيب الداخلي، وسلطة السياسة التي أداتها الشرطة وقوة الإلزام الخارجية. أما سلطة الله فهي كلية لازمة مطلقة مطبقة أدواتها الملائكة، وهو غني عنا، ولم يؤوده سبحانه حفظ العرش ليسلمه لأحد من عبيده، أما تحكيم الله والرسول الذي هو شرط الإيمان، فهو من وجهة نظري لا يتم بواسطة سلطة الآخر الخارجية، لأن الأجر الذي هو ثمن الإيمان، مرتبط بالإرادة، عبر القناعة التي تعبر عن القلب، كمسكن للعقيدة والإيمان. فعندما نقيس أفعالنا على مقياس الطاعة، نحكم الله في نوازع أنفسنا الحرة في اختيارها، ونبرهن على إيماننا الطوعي وتقوانا، أما عندما تجبرنا قوة خارجية على الطاعة، فعندها نخسر الثواب والأجر، ولا نكون مؤمنين فعلا بل مسلمين قسرا.

كما كنت دوما أبحث في ثقافات الشعوب وتجاربها الحضارية، عن نماذج الحكم الرشيدة، لأطور بها حياتنا السياسية المتخلفة، التي تعاني من أمراض كثيرة، وأسعى للتوفيق بين هذه الحداثة الفكرية والتنظيمية، وبين الأصالة المتجسدة في مبادئ العقيدة الإسلامية، وفلسفتها التوحيدية. ولم أر تناقضا بينهما أو ضرورة لوضع أحدهما على نقيض الآخر، لأن الإسلام دين منفتح على الخير وعلى ما ينفع الناس. ومنها فكرة التمييز بين سلطة الدين التي تعمل على الضمير، وسلطة الشرطة والقانون الخارجية المحدودة بواجب حفظ السلم الاجتماعي فقط ... وما أزال على قناعة أن الخلط والمزج بينهما عبر استعمال رجال الدين كحكام وليس دعاة، سيدمر فائدة كل من سلطة القانون وسلطة الدين معا، بحيث تتدخل الشرطة في الضمائر، ويأتي الحكام من غير طريق الانتخاب، ويتجدد الاستبداد الذي يتبعه الفساد، لندور في حلقة مفرغة ناجمة عن الخلط بين مهمة ووظيفة الدين والعقيدة والضمير الحر، وبين سلطة الشرطة والمخابرات والقهر.

كما كنت منذ عشرات السنين أعمل بكل الطرق والوسائل على قضية واحدة شغلتني منذ أن كنت يافعا هي إسقاط نظام الفساد والاستبداد والإجرام الذي لم نعرف غيره، وهو جاثم على صدورنا كقدر لا يحول ولا يزول خالد ابد سرمد أحد ... وقد حاولنا استيراد أفكار التغيير التي نجحت في قلب الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية (الربيع)، لكي تساعد على قلب نظام الحكم الشمولي الذي ينهج على نهجها، وحاولنا زرعها في ثقافة المجتمع الخانع آنذاك، ودفعنا ثمن ذلك سنوات طويلة في السجون، وعندما قامت الثورة ضد النظام المستبد، وقفنا بجانب قيم الحرية والحكم الرشيد ودولة الحق والمواطنة أي (الدولة الديمقراطية بالتسمية الغربية). لكن الذي نبت في أرض الوطن، هو نبتة أخرى تحمل ذات قيم الحرية والكرامة لكن بشعارات وخطاب إسلامي .. وهذا ما يجب أن نرحب به ونسير وفقه ... لكن النظام أصر على أخذنا بعيدا عنها، نحو حرب طائفية مذهبية كنا نظن أننا قد تجاوزناها .. وحرض سلوكه وسلوك حلفائه الإجرامي الطائفي، إطلاق شعارات دينية متشددة في مواجهة العدوان الغاشم الذي هو حرب وجود وحرب إبادة وتهجير. فبدأ الغرب يروج لفكرة محاربة الإرهاب والتشدد، ثم أخيرا للتحالف مع النظام ضد(الإرهاب)... عندها وجب أن يكون جوابنا واضحا وصريحا: لن ننقل المعركة مع النظام الإرهابي الذي لا مثيل لإرهابه.. لتصبح معركة بين أخصامه لأن في ذلك بقاء النظام ونهاية الثورة. فنحن لا نرى فوارق تستحق الحرب والصراع بين مشاريعنا (إسلامية كانت أو ديمقراطية). فهكذا خلاف يجب أن يحل بالحوار والانتخابات بعد سقوط الإجرام والمجرمين، وهو الهدف الذي نتوحد حوله ... أما عندما نتعرض للعدوان من الخلف من أي كان، فنرد العدوان بالقدر الكافي.

في المعركة عادة لا توجد فرص للاختيار، تجد نفسك في الخندق وتحارب مع آخرين، من أجل هزيمة عدو مشترك ...فتبحث عن توافقات بينك وبينهم. وإلا سوف نهزم جميعا دون تمييز. أما في السلم حيث تشتغل السياسة، فتصنف الناس تبعا لأفكارهم، ويحتكمون للتنافس الانتخابي والتداول السلمي.

... نحن بموقفنا الجديد نتفهم ونقبل دوافع رفاقنا في المعركة التي دفعتهم لرفع راية الدولة الإسلامية، والتي من وجهة نظرنا لا تختلف بالجوهر والغايات عن الدولة العادلة الرشيدة التي تحترم الحق والحرية وتنفع الناس، وبالتالي نعلن أننا نرفض فكرة بقاء النظام أو القتال والتقاتل بين أخصامه .. لأن فيه مقتل الثورة ..
فهل في هذا عيب أو انزلاق وتزحلق سياسي أم ثبات على القضية وتركيز على جوهرها وهو إسقاط النظام ورص الصفوف من أجل ذلك .. نعم أنا مقتنع بموقفي القديم والجديد ولا أرى أي تناقض، وأرى أنه الأصلح في هذا الظرف. رغم أنني مستاء من انزلاق الديمقراطيين لعداء الإسلاميين، وتسرعهم في العودة للتحالف مع النظام عند أول عقبة، ومن الصورة التي يقدمها بعض الإسلاميين عن الإسلام وهي ليست منه، فقد كان المسلمون أرحم الفاتحين وأكثرهم انضباطا وحفظا للحقوق والحياة، وإكراما للإنسان حتى لو كان أسيرا، ولنتذكر جميعنا أن الإسلام لم ينتصر بالقوة بل بالحق، وكان عليه الصلاة والسلام يستولي على القلوب قبل أن يستولي على القرى.. لذك أرجو من الإخوة في الجبهات الإسلامية تقديم نموذجهم الحضاري، والمشاركة في المنابر وشرح تصورهم للدولة العادلة، وعندها سنكتشف أن المسافات قريبة والزوايا يمكن تدويرها، وهي السياسة التي تعني بناء المشترك والجمعي من المختلف والفردي. والله من وراء القصد.

من كتاب "زمان الوصل"
(118)    هل أعجبتك المقالة (121)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي